العونية الباسيلية.. العطب الذي أصاب الجمهورية
أسوأ الأحوال التي وصل إليها لبنان هي أن يتحول التيار الوطني
الحرّ إلى صاحب أكبر كتلة نيابية في البرلمان، ووزارية في الحكومة. إن دل
هذا الواقع الخطير على شيء، فعلى انهيار لبنان، الذي كان يتغنّى أبناؤه
بـ”متعة” الحياة السياسية وقيمتها فيه. فاستحالت إلى وضع ينزلق إلى الحضيض
يتعمق أكثر فأكثر.
حال التفاهة
تيار سياسي لا يعيش ولا
يستمر ولا يحشد أصواتاً انتخابية، إلا بادعاء بطولات وهمية، وافتعال مشاكل
وفتن مذهبية وعنصرية وعصبية طائفية، يستخدمها كذريعة لإيهام المسيحيين
الذين يتوجه إليهم أن هذه الطريقة كفيلة بتقوية موقعهم واستعادة “أمجادهم”.
تحولت السياسة مع هؤلاء إلى مسلسل سينمائي رديء، بقدر ما هو مضحك وهزيل هو
أيضاً مخيف، لا ينتج غير الخطر والخراب، خراب عقول الناس، وتخريب كل ما له
علاقة بالسياسة وعملها.
رداءتهم وحدها تتكلم عنهم، من مواقفهم العنصرية تجاه
اللبنانيين الآخرين، إن بذريعة “الحفاظ على الوجود”، يمنعوا المسلمين من
السكن في بعض المناطق، أو عبر سلوك نموذجي عبر عنه أحد وزرائهم الذي خرج
على اللبنانيين، طالباً منهم عدم إسماعه صوتهم. أو أيضاً ذاك النائب الذي
ينتقد الحرائق بوصفها تستهدف المناطق المسيحية. هذا جزء من حال التفاهة
التي يصنعها هؤلاء ويعيشون فيها، ويجرّون اللبنانيين إليها. وربما من
الأفضل إحالتهم إلى كتاب المفكر الكندي آلان دونو “نظام التفاهة”، لربما
يفي بالغرض لشرح حالتهم، أو ليتعرفوا على أنفسهم وما ينتجونه.
تقمص عيوب الآخرين
تختصر
حالتهم كل عيوب الآخرين، فتتجمع لديهم مستنقعات كثيرة، تفوح منها كراهيات
الطائفية والمذهبية والعنصرية والمناطقية. ليس فيهم غير التناقضات الرديئة،
والتصارع بين الموقف المعلن والفعل الممارس. يدّعون الوطنية، ولكنهم لا
يمارسون إلا ما يؤدي إلى الشرذمة والتفريق. وكأن الدور الذي يؤدونه مرسوم
لهم من قبل أعداء لبنان، ويجيدون تنفيذه. مشكلتهم مع الآخرين، أنهم يريدون
السيطرة على كل موبقاتهم، والتفرد فيها، بالاستناد إلى شعارات كاذبة وواهية
تدّعي العكس، وتبني مجداً باستخدام مصطلحات من قبيل التغيير والإصلاح.
ويفتح هؤلاء معركة التنافس فيما بينهم، حول من الشخص الأسوأ والأردأ. في هذه المعركة يغيب كل ما له علاقة بالعقل أو احترام الذات والآخرين. يتنافسون للفوز بألقاب تافهة وفارغة، فهذا يطلقون عليه لقب “النمر” وآخر لقب القوي، وثالث لقب المغوار، وهكذا دواليك، ليُباح لهم كل ما يقترفونه من تعديات وإمتهان للكرامات. فيعملون وفق صيغة بيع صكوك الغفران، وتحديد الوطني من العميل. يعيشون حالة نكران لذاتهم، يريدون سدّ النواقص لديهم بالتهجم على الآخرين، أو بتتفيه كل من يعارضهم أو يعترض طريقهم. والمفارقة أن فيهم كل ما يعيرون به الآخرين. يتهمون الحريرية السياسية بأنها صاحبة الفساد المالي، ويختصرونها بهذه السمة، بلا أي مقاربة سياسية أو اجتماعية أخرى. حقدهم على الحريرية، أنهم يريدونها لهم على طريقة “العونية” أو “الباسيلية”، وتكون مرتكزاتها ونقاط قوتها محتكرة من قبلهم. بنوا مجد شعبيتهم على انتقاد ممارسات الرئيس نبيه بري باحتكار الوظائف وخدمات الدولة، فيأتون للإنتقام وارتكاب ما هو افظع. يعيبون على حزب الله علاقاته الخارجية ومشاريعه المرتبطة بالساحات الأخرى، لكنهم يستندون على تحالفهم معه ودعمه لهم، ليحققوا ما يريدون، ويذهبون إلى المزايدة عليه كذباً بالدفاع عن فلسطين، ويطرحون مشاريع الأقليات والتحالفات المشرقية.
يحقدون على وليد جنبلاط أو سليمان فرنجية، ويتهمونهما
بالمناطقية والمذهبية، لاستثارة نعرات مذهبية وطائفية، فيمارسون المناطقية
والمذهبية بأفظع صورها، القائمة على زرع الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد،
واستخدام مسوغات “الحرب الوجودية” التي يخوضونها للحفاظ على بقائهم ودورهم.
حتى في استنساخ “زعرنة” من يصفوهم بالميليشيات، تتجلى الرداءة، كما ظهرت
قبل يومين في جونية بالإعتداء على متظاهرين، باستخدام الفجور المناطقي
والطائفي، أو الفجور الذي يعتمدونه تاريخياً، وهو أنهم في حالة دفاع عن
النفس. بخلاف تصرفات القوى الأخرى. فمثلاً عندما توجه متظاهرون إلى محيط
عين التينة أو مجلس النواب وتعرضوا للضرب على يد حرس المجلس، لم يدّع هؤلاء
أنهم تعرضوا لاعتداء بل مارسوا بلطجيتهم علانية واعتبروها فعل قوة. بينما
العونيون يريدون ممارسة البلطجة ويدعون الاستضعاف والبراءة والتحضر.
تيار الفراغ والدونية
يمكن
وصف هذا النموذج بـ”المرض الذي أصاب الجمهورية والسياسة اللبنانية”. ويشكل
الخطر الأكبر على صيغة لبنان وكيانه والمسيحيين فيه. من خلال شراء المشاكل
والمتاجرة فيها، من دون أي حساب لما يمكن أن تنتجه من صراعات مذهبية
ومناطقية تؤدي إلى إعادة تفجير الحروب.
مشكلتهم الأساسية أنه ليس لديهم قدرة على تكوين عقيدة كحزب الكتائب أو حزب الله، وليس لديهم تاريخ سياسي كحال القوى السياسية التقليدية، ولا تاريخ قتالي مشهود. تقوم فكرتهم الأساسية على تأليه شخص وعبادته، صانعين للأسطورة. ثمة صدف تاريخية ساهمت في جعل عون بالنسبة إليهم المخلص الوحيد، في سياق غرقهم بأوهام القوة. انها حالة تحتاج إلى فحص دقيق، ومعالجات نفسية واجتماعية وصحية وعقلية.
الغريب أن هذا التيار، لم ينتج أي محتوى ثقافي أو سياسي، لم يقدم أي فكرة، على الرغم من انه يمثل طبقات متنوعة اجتماعياً، وهذا يدل على فراغ يصيبه لا ينتج غير خطاب شعبوي. والأغرب أن ثمة اجماعاً لدى اللبنانيين، بأن متوسط الذكاء لديهم منخفض جداً. يبدو هذا التمييزالعنصري والمجحف بحقهم، سمة يتلاقى عليها الكثير من اللبنانيين، وهي تستحق الدراسة والمعاينة، خاصة أن تصنيفهم من قبل خصومهم، أو تصرفاتهم هم مع خصومهم، غالباً ما تنتج عن حقد أو حسد، أو شعور بالدونية التي تسعى دوماً إلى الانتقام.
المدن