“حركة حبق”: مشروع تعاوني لتحرير الزراعة من كارتيلات التجار
فيما يشهد لبنان أضخم انهيارٍ اقتصادي في تاريخه الحديث، تنشط مبادرات مدنية تهدف إلى تأمين خيارات وبدائل متاحة للخروج من الأزمة، أو الحدّ من تفاقمها، بدل الرضوخ لسياسة الدولة (الفاسدة) القائمة على استدانة المساعدات من الخارج.
الزراعة والأرض
ولأنّ “الأمن
الغذائي في لبنان أصبح مهددًا”، أنشأ عدد من الشبان والشابات “حركة حبق”
بعد نقاشات وأبحاثٍ طويلة حول مفهوم “السيادة الغذائية”. وفي أراضي منطقة
راسمسقا المحاذية لطرابلس، انطلقت “حبق” في مشروعها الطموح الذي يهدف
إلى إنشاء شبكة تبادل تعاونية بين المزارعين والمستهلكين، لتحريرهم من
“كارتيلات” شركات إنتاج البذور وتجار الأسواق الزراعية.
تألفت الحركة بإدراة جماعية يقودها 5 أشخاص: مراد عياش، تميم عبدو، أحمد كبارة، حائرة سليم، وسيرج حرفوش. قبل أيام التقت “المدن” مراد وتميم. والأخير هو صاحب الأغنية الشهيرة “معلمي معلمي معلمي/ أنت فاسد على علمي”. وهو يؤديها باللهجة الطرابلسية العتيقة. كان الشيف تميم الشغوف بالمطبخ، يدير في خيمة “ساحة ومساحة” جلسة عملية حول صناعة الخبر المنزلي، ويقف مراد قربه لمساعدته في تنفيذ التجربة أمام الحاضرين. قال تميم: “نريد أن نعلّم الناس كيف يصنعون الخبز في بيوتهم، فلا يتعتمدون على الأفران وتجار القمح، ولا يرضخون لابتزازاتهم في الإضرابات. ومن ناحية أخرى، نريد أن نواجه فساد السلطة وضغطها الاقتصادي علينا. بأيدينا كلّ ما نحتاجه”.
لا تنفصل الجلسة عن أهداف “حركة حبق” التي يحدثنا عنها مراد (30 عامًا) وعن ضرورة العودة إلى الأرض في ظلّ ظروفنا القاهرة. قبل ثورة 17 تشرين الأول 2019، سعى أفراد المجموعة إلى تنفيذ فكرة كانت قيد التأسيس: تكوين مجموعة اسمها “سياق”، لـ “العمل الاقتصادي – الاجتماعي” على مستوى لبنان، وتهدف إلى خلق فرص عمل للشباب والشابات ضمن نطاقهم المحلي. ومنذ عامٍ ونصف العام، “توصلنا إلى نتيجة أننا لا نزرع كما يجب أن نزرع، وأنّ الشركات تبيعنا أدوية ولا تبيعنا بذورًا. وهي تحتكر عمل المزارعين لصالح التجار في هذا القطاع”، قال مراد. وشرح عن عملهم على مشاريع “تحرر” المزارع والاقتصاد الشعبي، عبر تفعيل العلاقة بين المستهلك والمزارع والمنتج، بدل احتكار التجار لهذه العلاقة. فـ “نحن لن نتحرر غذائيًا إلّا بإنشاء شبكة تحمي المزارعين والمستهلكين والعاملين في إنتاج الغذاء”.
لكن، هل نستطيع الاستقلال كلّياً في القطاع الزراعي؟ أجاب مراد: “بالطبع لا نستطيع أن نستقلّ كلّياً في الزراعة، لأننا بحاجة ماسة إلى محيطنا، وتحديدًا إلى سوريا التي تربطنا بها علاقة تجارية تاريخية، لا سيما أنّ الأراضي اللبنانية لا تحقق الاكتفاء الذاتي لشعبها”.
اقتصاد تضامني
التعويل على المحيط “لا يعني عدم استثمارنا القطاع الزراعي المحلي، والتكنولوجيا الزراعية التي تعزز مفهوم سيادتنا الغذائية. وهذا ما يقودنا إلى تنشيط الاقتصاد التضامني، وبناء التعاونيات الزراعية، وبالتالي كسر احتكارات التجار ومافيات الدولة والكوموسينجية. وحتّى لا نبقى ضحايا السمسرة والاتفاقات المشبوهة التي تستغلها السلطة لصالحها”، قال مراد. وفي سياق الأمثلة عن هذه السمسرات، ضرب مثلًا: “لبنان يحتاج إلى استيراد البطاطا المصرية بكميات هائلة، لأنّ موسمنا من البطاطا عكس موسم مصر. لكنّ التجار محتكري الأسواق، يستغلون الأمر لبيع البطاطا اللبنانية بسعر مرتفع لمصلحتهم الخاصة، وليس لمصلحة المزارعين”. وهنا يتساءل مراد مستنكرًا: “هل من المنطق أن يشتري التجار كيلو غرام البندورة من المزارعين بمئتي ليرة لبنانية ويبيعونه في الأسواق بما يفوق الألف وخمسمئة ليرة؟”.
“حبق” من نوع آخر
يتفق أفراد مجموعة “حبق”، الذين يعلّقون آملًا كبيراً على حركتهم، على أنّ إيمانهم بـ “الاقتصاد التعاوني”، هو ما يشجّع فكرة أن “نزرع بلدي” في المواسم، ونغيّر عاداتنا الغذائية، “لأن الشركات الزراعية في لبنان كذبة كبيرة. فهي شركات أسمدة وكيماويات”. و”نحن نرى أنّ هناك نزوحًا كبيرًا من الأرياف، نتيجة الأزمات التي يعاني منها القطاع الزراعي، ولأن الدولة لا تضع سياسة ورزنامة زراعية واضحة وممنهجة لفرض توازن بين الانتاج المحلي والاستيراد”. لكنّ هذا التقصير مقصود، “في ظل سطوة كارتيلات التجار الزراعيين”.
ويتحدث مراد عن نشأة “حركة حبق”، بعدما وصل اللبنانيون واللبنانيات إلى 17 تشرين، وبعد هذا التاريخ الثوري. وهو يقول: “وصلنا في جلساتنا، إلى ضرورة الاستقلالية الاقتصادية، وأن نقدم للناس خطابًا يحمل حلًا، وأن نشجع الزراعة المحلية والبلدية التي تقوم على حفظ البذور في نهاية المواسم”. ولحفظ البذور تسعى “حبق” إلى إنشاء مشروع يتمحور على تأسيس مكاتب في المناطق لحفظ البذور، لتوزيعها على المزارعين.
“من يمتلك سيادة الغذاء يمتلك حريته وينعم بحياة كريمة”. ترفع حركة “حبق” هذا الشعار، وتؤكد أن ميزانية المشروع لا تزال صفرًا، وأنّها لا تستأجر الأراضي، بل يبادر أصحابها إلى العمل فيها. ومنتوجات مزارع “حبق”، توزع على الناس ضمن خطّة سريّة تضعها، إلى حين تعميم فكرة مبادرة الناس إلى الزراعة في أماكن سكنها، ولو على سطوح الأبنية.
في أرض رأسمسقا زرعت “حبق” الخس والفاصولياء والبصل والبروكولي والملفوف والقنّبيط. ودخلت الحركة إلى المخيمات الفلسطنية والسورية لتعميم الفكرة، “لأنها جزء أساسي من التركيبة اللبنانية. ونحن حركة لكل الناس وضدّ أيّ خطاب عنصري”، أضاف مراد.
ووضعت الحركة برنامجاً لزيارة البقاع وصيدا وحمانا. ومن منطقة العين تضم 20 شاباً وشابة مدربين على العمل الزراعي. وستقوم بتسليمهم أراضي من خلال “المبادرة التعاونية الزراعية”. وهي بنك أراضي عقدت اتفاقيات مع أصحابها.
ينطلق مشروع “حبق” من إيمان “المجموعة” بأننا نعيش في بلدٍ محاصر سياسيًا وإقليميا، ومن سلطات فاسدة. أما خيارها فبديل مستدام، وليس موقتًا.
جنى دهيبي – المدن