كورونا يتوّج كارثة الاقتصاد وفساد السياسة مرضاً لبنانياً مستفحلاً
قوة كورونا في لبنان ليست بحجم المصابين وأعدادهم، على الرغم
قابلية الأعداد للتزايد في الأيام المقبلة. فالصورة المضخمة للفيروس، على
بشاعتها، تأتي في لبنان كحبة كرز على قالب متعفن من الحلوى.
مأزق اليوروبوند
كأنما
وباء كورونا تتويج للتعفن الذي أصاب النظام السياسي المكبّل والمهترئ
والموبوء بصراعات قواه ومكوناته: حكومة “تكنوقراطية” عاجزة ومشلولة حيال
اتخاذ أي قرار، وتستنجد بمستشارين وهيئات دولية لمساعدتها، لتبقى عالقة في
المأزق – المربع الأول واسمه اليوروبوند وتداعياته. وهي سلسلة إجراءات
قاسية ستطال المواطنين بضرائب جديدة، أو تخفض الرواتب أو تقتطع من الودائع
والحسابات المصرفية. ناهيك عما ينجم عن ذلك من توسع للأزمة الاقتصادية
وإغلاق مؤسسات صناعية وتجارية وسياحية كثيرة.
وحال البطالة التي استشرت بسبب الأوضاع والظروف ستتزايد في
الأيام المقبلة، بنتيجة الكورونا والتعاميم التي تصدرها وزراة السياحة حول
إغلاق الحانات والملاهي، فيصاب الناس بحال من الذعر، فيحجمون عن ارتياد
المطاعم والمقاهي، ناهيك عن إصابة قطاعات أخرى بحال الهلع والشلل التام،
المستشري أصلاً في الواقع السياسي والمؤسساتي في الدولة.
الوباء الطائفي
يسابق
خطر كورونا وما يكشفه من هزال اجتماعي، خطر الفراغ الفكري والثقافي الذي
يعيشه اللبنانيون على الصعد السياسية الاجتماعية والثقافية، وحتى الطبية
والعلمية. الخطر الثاني قد يفوق الأول. فقد جعل بعض اللبنانيين للفيروس
هوية مذهبية ومناطقية.
ودخلت إلى القاموس اللبناني مستجدات تقول بفرض حجر مناطقي، أي طائفي ومذهبي، بعدما جاءت الإصابة الأولى من إيران. وهذا يضاعف الشروخ والتمييز بين الجماعات اللبنانية.
وعندما أعلن عن أول مصاب في “المنطقة الشرقية” (المسيحية) تمددت حال الهستيريا مع خبر إصابة أحد الرهبان بالفيروس، فيما عمل راهبان آخران على حجر نفسيهما طوعاً، للتثبت من إصابتهما بالفيروس من عدمه.
هنا يكمن المفعول الأقوى لكورونا. وهو أقوى بكثير من أعداد المصابين. فالفرادة اللبنانية لا تسمح لعنجهية اللبنانيين بالتعاطي مع كورونا كأزمة مرضية تحتاج إلى استراتيجية وطنية لمكافحتها. هذا غير ممكن فيما تعيش جماعاته على التنابذ والأحقاد المتبادلة. لذا تقرن السرديات اللبنانية النظر إلى الفيروس بمنظور سياسي – طائفي، وجعله فرصة لملئ فراغات سياسية هائلة في نفوس القوى المتصارعة.
فمن يعارض حزب الله وإيران يلقي باللوم عليهما بسبب استيراد
الفيروس إلى لبنان. بينما يتهم أنصار إيران وجماعاتها اللبنانية الآخرين
ويصرون بكل مكابرة على استمرار زيارتها من دون أدنى اعتبار لحجم الكارثة
التي حلت فيها. ومن عادة اللبناني اللجوء دوماً إلى الخرافات لمواجهة
المصائب: تكثيف زيارة المراقد والرهان عليها، أو كتابة “الحجابات” للخلاص
منها. وهناك من لجأ إلى تراب مار شربل لتكريس أعاجيب الشفاء التي تتغلب على
الطب. وذلك بحملة إعلامية تضخ بالترهات باعتبارها معجزات على مستشفى بيروت
الحكومي الصدوع لمنطقها والاستعانة بها لشفاء مصابي كورونا ومكافحة
الوباء. والملحدون بدورهم يلجأون إلى مثل هذه الأفكار على طريقتهم: مكافحة
الفيروس بزيادة منسوب كميات الكحول التي يتناولونها.
“حب الحياة” الأهوج
لم
تكن تحتاج الهستيريا اللبنانية إلا فيروس كورونا لتطفح به كوب الأوبئة،
التي لا يتعاطى معها اللبنانيون بمنطق الخرافات فقط، وإنما برهانات
أسطورية، من قبيل “حب الحياة” ورفض الانكفاء أو العزلة، والمواجهة بالمزيد
من النشاط والتخالط. وفي مقابل إقفال المدارس كثر الاحتشاد على الثلوج
للتزلج، النزهات الكثيفة والجماعية في الطبيعة. وهذا على قاعدة أن اللبناني
معروف بتغلّبه الأسطوري على الأوبئة والأمراض، فلا يواجهها بالهروب
والحجر، بل بالظهور أمامها فارساً مقداماً عارياً إلا من شهامته وقوته
الخارقة الخرقاء .
تمثل كورونا في المرحلة المقبلة درّة تاج الانهيارات اللبنانية في المجالات والقطاعات المختلفة. فهي تطال المؤسسات السياسية والدستورية، بدءاً من تعليق وإغلاق البرلمان ومكاتب النواب وتأجيل جلسات اللجان، إلى حالة الاستنفار التعقيمية التي أعلنتها الزعامات وأحزاب في مناطق نفوذها. وفي هذا ما يشبه مباراة كيدية بين الزعامات والطوائف. وهو ينسحب حكماً على إجراءات تخفيف اللقاءات والاجتماعات السياسية للرئاسات والوزراء. وقد يتوسع قرار إغلاق المدارس والمعاهد والجامعات والحانات والملاهي، ليشمل المقاهي والإدارات العامة والخاصة فيعم الشلل، ويتوج الانهيار اللبناني انهيار اجتماعي يفرض المزيد من التشرذم وحالات الحجر بين المناطق.
المدن