كورونا وامتحان الأنظمة
ظافر ناصر*
تشكل الأزمات التي تمر بها المجتمعات امتحاناً حقيقياً لها على مختلف المستويات وتكشف قدرة الدولة على مواجهة أزمتها وكيفية الخروج منها. ولا شك أن وباء كورونا شكل تحدياً وجودياً للبشرية ولا يزال يكشف الستار عن ضعف وهشاشة الأنظمة في مختلف أنحاء المعمورة. وقد كان لكل دولة نصيبها من هذا الوباء الذي أدى لاستنفار كل الطاقات والامكانات والقدرات، وكشف بشكل لا لبس فيه مدى قدرتها على مواجهة هذا التحدي والتغلب عليه، وحقيقة وجود مقومات الدولة من عدمها، ووعي وقدرة الشعوب على التحمل والمواجهة من عدمها، وأطلق من جديد جدلية المقارنة العميقة بين مختلف الانظمة السياسية التي تحكم في القارات.
مقارنة بسيطة بين نظام الحزب الواحد في الصين من جهة وأنظمة الديمقراطية الغربية من جهة ثانية التي سلم كثيرون لعقود أنها أمّنت لمواطنيها مقومات الحياة الكريمة كافة، تُظهر أن الحزب الواحد استطاع بفترة زمنية قياسية وبقدرات علمية وصحية واقتصادية هائلة وإرادة بشرية عملية وجبارة تثير الإعجاب، استطاع احتواء الوباء ومواجهته بشراسة، مقابل عجز غربي على احتواء الكارثة، وتجربة ايطاليا واسبانيا وغيرهما من دول القارة العجوز الدليل الساطع على هذا العجز كما على هشاشة نظام الشراكة، حيث لم تجد إيطاليا إلا يد التنين الصيني تمدّ لها العون في مأساتها في ظل تخلي الاتحاد الاوروبي الكامل عنها بحجة انشغال دوله الداخلي بمواجهة الوباء. علما ان تقييم نجاح تجربة الشراكة الاوروبية لن يرتبط بمنعطف كورونا فحسب، بل بدأت ملامح انهيار هذه المنظومة مع Brexit.
لا شك ان هذا الواقع سيفتح النقاش في المستقبل القريب حول جدوى منظومة الاتحاد الاوروبي التي قامت على اساس التكامل والتضامن السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين دوله، كما سيبدأ البحث في مدى تحقيق عناصر التنمية داخل هذه الدول نفسها، وهي التي تتغنى بتقديم الملايين كمساعدات مادية لدول العالم الثالث لتحسين أنظمتها الصحية والعلمية والتقنية.
ما تقدّم سيُقارَن مع ما أنجزته الصين لنفسها طيلة عقود مضت، لتُظهر للعالم أجمع قدرتها ونجاحها على مواجهة أزمتها بمفردها، وبل مد شعوب العالم بالمساعدات المادية والخبرات التقنية لتحتل وعن جدارة صفة المنقذ العالمي، وربما مع الوقت ستغدو الصين القائد الفولاذي لهذا العالم وتعبّد طريق الحرير العابر للقارات.
لقد أعطت الصين درسًا للعالم في مجال التكافل والتضامن الاجتماعي والإنساني وسخّرت كل امكاناتها في خدمة الإنسان بالدرجة الأولى، في وقت يؤخذ على نظامها بأنه ذات طابع شمولي قائم على قمع حرية الرأي والتعبير وحرية التجمع وتأليف الجمعيات…. مقابل حرية مطلقة ومقدسة تألقت شعوب ودول الاتحاد الاوروبي بها ومعها لكنها لم تُجدِ نفعًا في مواجهة عدو خبيث غير مرئي لا يقاوم إلا من خلال إدارة فعالة ونظام صحي اجتماعي متماسك كشفت الأزمة ضعفه، في حين تبيّن انّ الصين لم تضيع وقتها ومواردها من اجل تفعيله رغم اتهامها بتاخرها في مجال الحريات والديمقراطية.
سيفرض وباء كورونا المستجد واقعا جديدا لن يكون النقاش معه نقاشا نظرياً حول طبيعة النظام السياسي وديمقراطيته وتمثيله للشعب، بل سيصبح المعيار الإضافي لا بل الأساسي لنجاح أي نظام سياسي من عدمه هو تلبيته متطلبات وعناصر الرعاية الاجتماعية والصحية والتربوية وكافة الخدمات المرتبطة.
في جميع الأحوال، تبقى الركيزة الأساس في أي مجتمع لتمكين الإنسان و مواجهة استحقاقات الحياة هي “الدولة” بما تمثله من نظام مؤسساتي عصري ومنظومة خدمات تلبي احتياجات المواطن، لتمكينه من الصمود والمواجهة لأي أزمة.
للاسف فإن هذه الأزمة أكدت المؤكد في لبنان حول مدى ضعف وترهل نظام الدولة، على الرغم من كل ما يبذل، وطرحت مجددا امام اللبنانيين استحقاق بناء دولتهم المنشودة التي فشلوا في بنائها على عقود لاسباب متعددة. مع مفارقة، وهي أن الشعب اللبناني ونظرًا لعدم ثقته بدولته، أضحى يسبقها بأشواط في اتخاذ المواقف والمبادرات كدليل على إرادته للتحدي من أجل الحياة، وهذا ما بدا جلياً في إعلانه بنفسه حالة الطوارئ التي لم تعلنها الحكومة! وفي استنهاض الهمم وتوزيع المساعدات ولعب الدور الذي من المفترض ان تلعبه الدولة، وذلك عبر أحزابه وهيئاته المدنية وسلطته الرابعة التي اندفعت لحماية الناس ووقايتهم وتوعيتهم من وباء كورونا.
تجسدت هذه المسؤولية الذاتية بقرار مباشر من قيادات سياسية يأتي في مقدمها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي كان سباقا بدق ناقوس الخطر مما نحن مقبلون عليه، وذلك عبر حزبه ومؤسساته التي تحولت الى خلية نحل تعمل ليل نهار في كل المناطق، كما عبر ما قدمه مباشرة من دعم للمؤسسات الصحية الرسمية في هذه المحنة، اضافة الى ما يقدمه بشكل دائم لهذا القطاع في اكثر من مؤسسة ومنطقة. الا ان منطق الدولة لدى جنبلاط وحزبه لم يسقط على الرغم من كل الواقع المؤلم سواء بالركون اليها بوصفها المرجعية الرسمية كما دائما وبوضع كل الامكانات في اطار العنصر الداعم وليس البديل، وفي هذا الاطار كانت دعوته الى كل القوى السياسية والدولة على حد سواء بضرورة تأسيس صندوق وطني ينهض بهذه الأزمة ويحاول تحصين اللبنانيين من تفاقمها على أمل ان تلقى تلك الدعوة آذانًا صاغية علها تشكل طرحًا واقعياً يشكل جسر عبور الى ضفة الأمان.
بين مرحلة أفلت ومرحلة جديدة بدأت بعض ملامحها بالظهور تفرض علينا العمل لإعادة هيكلة وحوكمة أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية لبناء دولة حقيقية هي مسؤولية جماعية في ظل غياب الدولة. وهنا نتساءل، هل تشكل هذه المحنة حافزاً حقيقيا ام تنقضي الازمة لنعود ونقف مكتوفي الايدي حيث نحن؟
(*) أمين السر العام في الحزب التقدمي الإشتراكي