صرخة الراعي الضائعة:العهد يحاصر بري ويفتح ملفات المشنوق وشهيّب
يوم رفع البطريرك الماروني بشارة الراعي صوته وعصاه، معترضاً على جعل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كبش محرقة، كان الصوت نذير بداية تحرّك واسع ستطلقه بكركي، لوقف مسار ما عاد يمكن السكوت عنه.
خوف على المسيحيين
وحطّ
البطريرك في قصر بعبدا. التقى رئيس الجمهورية ميشال عون للدفاع عن “لبنان
الكبير”. جاء الراعي إلى بعبدا على قلقٍ، وفي أفق نظره رؤية تشاؤمية
وسوداوية: لبنان البطريرك الحويك مشرف على النهاية أو على الانهيار،
وسينقلب الوضع على المسيحيين.
لم يكن حديث الراعي مع رئيس الجمهورية خارجاً عن سياق كلام كثير يدور في الكنائس والأديرة، وبين النخب المسيحية، ومداره التدهور المتسارع للوضع اللبناني، ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على الصعيد السياسي الذي تكون تداعياته غير قابلة للجم، في حال انفجاره.
وبكركي تعتبر أن الوقت داهم، ولا مجال للدخول في صراعات من
نوعية مختلفة، لا على الساحة المسيحية، ولا على الساحة الوطنية. لذلك يجب
التشديد على ضرورة عقد جلسات متتالية للحدّ من هجوم الأسوأ. فبكركي تهتم
بالوضع المسيحي، بلقاءات واتصالات متشعبة. ومن واجب رئيس الجمهورية العودة
إلى دور الحكم، لأن الاستمرار بنهج “عسكري” ضد القوى السياسية يؤدي إلى
انفجار كبير، تداعياته تصيب المسيحيين أولاً.
نهج باسيل
يتطابق
كلام البطريرك مع كلام شخصيات مسيحية لها وزنها على الساحة الوطنية. ومن
هؤلاء مقربون من رئيس الجمهورية، ولكنهم أبعدوا عن الدائرة السياسية
المحيطة به. وهم على تضاد كامل مع نهج جبران باسيل ومساعديه. عقد هؤلاء
أكثر من لقاء مع عون، متمنين عليه عدم الاستمرار على ذلك النهج، لأنه سيؤدي
إلى إنفجار كبير.
ومن بين ما طرحوه معادلة وتساؤل يستحقان البحث والتفكير: من هو الطرف الذي يستخدم الآخر ويستنزفه، أرئيس الجمهورية وفريقه، يستخدمون رئيس الحكومة حسان دياب لتوجيه ضربات للخصوم، أم أن دياب – وهو بلا أي حضور سياسي وليس لديه ما يخسره – يستفيد من جموح عون وفريقه لإظهار نفسه بطلاً في خوض المعارك في الاتجاهات كلها، بدون أي تقديرات سياسية؟ فدياب لا يملك ما يخسره شعبياً ولا سياسياً، لكن ما يفعله قد ينعكس خسارات متتالية على عون.
ونصح هؤلاء عون بضرورة انتهاز أي فرصة لعقد إجتماع للتشاور،
يضم القوى السياسية في البلاد، لتخفيف التوتر. أصغى عون إلى هذه النصائح،
بعدما سمع كلاماً محلياً وخارجياً من ديبلوماسيين وسفراء، حول استعادة
الرئيس نبيه بري مبادراته الوطنية، لعقد ما يشبه جلسة حوار.
عون وبري وجنبلاط
هذا
ما حفّز عون إلى التحرك سريعاً، فوجه دعوته إلى رؤساء الكتل النيابية
لنقاش الورقة الاقتصادية، قاطعاً بذلك الطريق على برّي. حسابات عون تتخطى
الورقة الاقتصادية. فهو يريد الرد على كل الكلام الذي سمعه: إظهار قوته،
وأنه يعمل على طريق استعادة الصلاحيات. ليظهر في الاجتماع المرتقب أنه يجمع
أوراق القوة في بعبدا، وإن أبدت الصورة تحوُّل النظام إلى رئاسي. فيما يجب
أن تكون مناقشة خطة الحكومة الاصلاحية في مجلس النواب. لذا سارع عون إلى
توجيه الدعوات إلى رؤساء الكتل النيابية إلى قصر بعبدا. وهذا كله يضاف إلى
تجاوزات بروتوكولية كثيرة، أبرزها أن الأشخاص الذين سيتولون شرح الخطة
الاقتصادية، بينهم من ليس لديه أي صفة رسمية في الدولة.
ومن بين النصائح الموجهة لعون أيضاً: ضرورة تخفيف التوتر في الجبل، وتحديداً في الشوف. ووقف محاولات استفزاز وليد جنبلاط ومناصريه، ووقف حملات تطويقه. هذه النصائح جاءت على لسان شخصيات مسيحية كثيرة، التقت عون وخاطبته انطلاقاً من مبادئه، بوصفه أول من طرح فكرة احترام الأقوياء في طوائفهم. فجنبلاط هو زعيم طائفته ولا يمكن الاستمرار بسياسة الكسر معه، لأن الارتداد العكسي لذلك سيكون كارثياً.
لن تهدأ الجبهات
لكن السياسة التي يتبعها فريق عون لا تتغير. إذا تراجعوا في مكان، لا بد لهم الإقدام مجدداً بصيغة أخرى. ولبنان عندهم يحتاج دوماً إلى كبش محرقة. فبعد محاولتهم تحميل مسؤولية الانهيار إلى حاكم مصرف لبنان والمصارف قبل أسبوعين، ها هي اتهاماتهم تتحول. وبعد عدم مرور ورقة تدابير “مكافحة الفساد” في الحكومة، لجأوا إلى تحضير ملفات قضائية – سياسية تطال وزراء سابقين، لتحميلهم مسؤولية ما يجري، أو تحويل الأنظار نحوهم لإلهاء الناس. وقبل فتح المعركة الإعلامية ضد حاكم مصرف لبنان، كانت القاضية غادة عون تعمل على تحضير ملف قضائي للحاكم وتحريكه قضائياً وإعلامياً. توقفت عجلة هذا الملف، لتتحرك عجلة ملفات أخرى، ترتبط بوزراء سابقين من الذين أعلنوا المواجهة مع العهد. اختيار الملفات يكون سياسياً بالنسبة إلى القوى السياسية. فالآن يجري التحضير لفتح ملفات وزراء سابقين، مثل نهاد المشنوق، أكرم شهيب، وربما غيرهما لتحميلهم مسؤولية الفساد.
الخلاصة أن العهد لن يتراجع. فكلما هدأت معركته في ملف، يستل ملفاً آخر.
لن تهدأ الجبهات إذاً.
المدن