الدولة تستعد لبيع المرفأ خلسة.. وتنافس فرنسي-تركي محموم
ثمّة الكثير من الملفّات الداهمة التي لا تتعامل معها الدولة اللبنانيّة اليوم، لعدم قدرة حكومة حسان دياب على البت بها، بوصفها حكومة تصريف أعمال. من مسودّة مشروع قانون الكابيتال كونترول التي رفعت عن طاولة الحكومة منذ أشهر إلى ملف الدعم، وصولاً إلى خطّة الإصلاح الحكومي ومفاوضات الدولة مع صندوق النقد ودائنيها المحليين والأجانب، كلّها أمور عالقة رغم قسوة الانهيار المالي، بانتظار الحكومة الجديدة.
لكنّ الشلل الذي طرأ في مواجهة كل هذه الإستحقاقات الداهمة، قابله اهتمام غريب بملف طرأ على نحو غير متوقّع على أجندة المجلس الأعلى للدفاع، الذي يبدو أنّه بدأ بالتصرّف وكأنّه حكومة أصيلة، بوجود حكومة تصريف الأعمال. ففي مقررات المجلس الأعلى للدفاع، حلّ موضوع “تشركة مرفأ بيروت” كبند أوّل، ينص على “تكليف الأمانة العامة لمجلس الوزراء استكمال ملف إعداد مشروع قانون لتشركة مرفأ بيروت، والذي رفعته اللجنة المؤقتة لإدارة المرفأ لعرضه على مجلس الوزراء فور جهوزه”. تشركة المرفأ، كعنوان غامض وغير مفهوم الأبعاد، أيقظ المخاوف من وجود صفقة خصخصة ما أو شراكة مع القطاع الخاص، يتم التحضير لها في المرفأ إستباقاً لمرحلة بيع الأصول العامّة في مرحلة ما بعد الانهيار، خصوصاً أنّ أطماع أطراف دوليّة في المرفأ بعد الانفجار باتت واضحة، وتحديداً تركيا وفرنسا اللتان عبرتا عن اهتمام واضح بهذا الملف بالذات.
إشكاليّة الصلاحيّات الدستوريّة
قبل الدخول في فكرة تشركة المرفأ، يبرز السؤال البديهي هنا: هل يحق للمجلس الأعلى للدفاع تكليف الأمانة العامة لمجلس الوزراء الخوض في ملف حسّاس كهذا؟ وهل يحق للأمانة العامة المبادرة إلى استكمال إعداد مشروع القانون هذا قبل عرضه على مجلس الوزراء المقبل، بناءً على طلب المجلس الأعلى للدفاع؟ فالمجلس الأعلى للدفاع يُفترض أن يكون هيئة تملك صلاحية مناقشة الإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعيّة للبلاد، كما يعود لها مناقشة الإجراءات المتعلّقة بالمسائل الصحيّة والتربوية والأمنية بقدر ارتباطها بهذه السياسة الدفاعيّة. لكنّ ذلك لا يعني تفويضها الدخول في قرارات ومسائل تتعلّق بالسلطة التنفيذيّة التي يفترض أن يبت بها مجلس الوزراء، حسب الدستور.
مع العلم أنّ المجلس الأعلى للدفاع، وحتّى في ما يتعلّق بالإجراءات المتعلّقة بتنفيذ السياسة الدفاعيّة نفسها، ينحصر دوره في إصدار توصيات لا قرارات. فتقرير السياسة الدفاعيّة نفسها يعود للحكومة، كما تعود مسألة تنفيذ القرارات للأجهزة الرسميّة بحسب اختصاصها. باختصار، ما حمله الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للدفاع من تكليف للأمانة العامّة بمناقشة مشروع القانون لا يتجاوز كونه هرطقة دستوريّة موصوفة، مع العلم أن الاجتماع نفسه حمل تجاوزات أخرى من قبيل تكليف وزارة الأشغال بمهام تتعلّق بالمجاري المائيّة، وتكليف وزارة الماليّة بفتح إعتمادات تتعلّق بالتعويضات على المتضررين من انفجار المرفأ.
وحسب الكثير من المتابعين، يبدو أن رئيس الجمهوريّة أراد من كل هذه المسألة تطبيع مسألة التوسّع بتصريف الأعمال من خلال المجلس الأعلى للدفاع نفسه، في ظل تمنّع حسان دياب عن التوسّع في هذا النوع من القرارات. وبذلك، يكون عون قد خفف من ضغط تأخّر الحريري في تشكيل حكومته. لكنّ في قضيّة المرفأ بالذات، يبدو أن ثمّة ما يتجاوز هذه المسألة.
ماذا يخفي المشروع؟
بمعزل عن أزمة الصلاحيّات، ثمّة سؤال كبير حول ما يخفيه هذا الاهتمام المفاجىء بمسألة “تشركة المرفأ”. فتجاهل أكبر المسائل الداهمة، ومنها المسائل التي يعيق غيابها الدعم المالي الخارجي، والذهاب إلى البحث في موضوع تشركة المرفأ تحديداً بهذا النوع من المناورات في ظل الفراغ الحكومي، يدل بالتأكيد على طبخة ما يتم تحضيرها في الظل. وهنا تصبح التساؤلات مشروعة إذا ما التفتنا إلى الاهتمام الفرنسي اللافت بملف إعادة بناء وتشغيل المرفأ بعد الانفجار، وخصوصاً مع الدعم الذي أعطاه الرئيس الفرنسي لشركة CMA الفرنسية التي كانت تنافس على عقد إدارة محطة الحاويات قبل الانفجار. فرودولف سعادة، مدير الشركة، رافق الرئيس الفرنسي في زيارته من باريس إلى بيروت، كما واكب جميع اجتماعاته مع المسؤولين اللبنانين. وقد ربط البعض هذا الأمر بالسباق المحموم الذي تخوضه فرنسا على مساحات النفوذ البحريّة في منطقة شرق المتوسّط، مع عدّة أطراف أبرزها تركيا، والذي انعكس على الساحة اللبنانيّة بمحاولة فرنسا وضع يدها على ملف إدارة وتشغل وبناء مرفأ بيروت وفقاً لعقد طويل أمد مع لبنان.
عمليّاً، أكثر ما يثير الريبة هنا، هو ما تعنيه مبادرة المجلس الأعلى للدفاع من استثناء لتشركة المرفأ بالتحديد من ملف الصندوق السيادي المزمع تأسيسه لاحقاً، الذي يُفترض أن يضم أبرز أصول الدولة المدرّة للأرباح، والتي سيتم استثمارها وفقاً لصيغة تؤمّن حسن إدارتها بالشراكة مع القطاع الخاص. وإذا كان من المسلّم به أن هذا الصندوق السيادي سيتم تأسيسه واستثمار أصوله وفقاً لقواعد نزيهة واضحة، يجري تطبيقها بالتفاهم مع صندوق النقد والجهات الداعمة الأخرى، فمن المؤكّد أن العمل على ملف تشركة المرفأ في هذا الوقت بالذات قبل تأسيس الصندوق يخفي رغبة بتهريب هذه الصفقة، من دون وضع ملف استثمار المرفأ في “سلة” الأصول العامة، التي سيتم استثمارها في إطار الصندوق. ببساطة، هناك ما يجب تمريره في المرفأ في الظل، بمعزل عن أي قواعد شفافة يمكن وضعها لاحقاً لاستثمار الأصول العامّة.
بالإضافة إلى كل ذلك، ما يدعو للاستغراب هنا هو مبادرة الدولة للسعي لاستثمار المرفأ وفقاً لقاعدة “التشركة”، في حين أن الدولة لم تبادر بعد إلى إنهاء الصيغة النهائيّة لخطّتها للإصلاح المالي، خصوصاً بعد أن سقطت الصيغة الأخيرة لهذه الخطّة إثر انقلاب لجنة المال والموازنة عليها. مع العلم أن هذه الخطة ينبغي أن تحدد بوضوح طريقة استثمار الأصول العامة التي سيتم تشركتها، أو استثمارها بالشراكة مع القطاع الخاص. كما ينبغي أن تحدد المردود المتوقّع من هذه الاستثمارات وطريقة التصرّف بهذا المردود. مع العلم أن انتظار الخطّة للبت بطريقة استثمار الأصول العامة ضروري، لكون الدولة ستفاوض الدائنين الأجانب وفقاً لهذه الخطة، ووفقاً لحجم المدخول الذي ستتوقّع تأمينها من مختلف المصادر، خلال مرحلة التصحيح المالي. بمعنى آخر، لا يوجد ما مبرر من ناحية المعالجات الماليّة الاستعجال بتمرير قانون تشركة المرفأ على حدة، بعيداً عن التكامل مع رؤية كاملة للتعامل مع الأصول العامّة.
الشفافيّة الغائبة
هل ستذهب الدولة إلى التشركة مع الإبقاء على ملكيّة المرفأ بانتظار خصخصته في مرحلة لاحقة؟ أو ستقوم بالتشركة وفقاً لصيغة تؤمّن دخول القطاع الخاص كشريك في المرفأ منذ البداية؟ هل ستبيع الدولة حصّة ما في المرفأ، أم ستذهب إلى نماذج الاستثمار المؤقّت وفقاً لإطار زمني محدد؟ حتّى اللحظة، ما زالت التساؤلات مفتوحة، في ظل الغموض الذي يخيّم على الملف بأسره، وبغياب أي شفافيّة بما يتعلّق بطريقة استثمار مرفق حيوي وحسّاس كمرفأ بيروت.
هذا الغموض، يشبه طريقة تعاطي الدولة مع مرفأ بيروت منذ أكثر من ثلاثين سنة، أي منذ أن استعادت الدولة هذا المرفق واستلمته بعد الحرب ووضعته بإشراف اللجان المؤقّتة المتعاقبة، من دون أن تحاول وضع صيغة دائمة ومنتظمة لإدارة المرفأ. وطوال تلك السنوات، ظلّت هذه اللجان تشغّل المرفأ وتجبي الأموال وتتحكّم بإنفاق الأموال التي تجبيها، وترسي صفقات الخدمات بعيداً عن أي رقابة، سواء من ديوان المحاسبة أو من وزارة الماليّة. واليوم، يتجه لبنان لوضع صيغة جديدة لاستثمار هذا المرفأ، بغياب حكومة تصارح اللبنانيين، بسبب الاستعجال بوضع هذه الصيغة في هذا الوقت بالذات، وبغياب من يخبر اللبنانيين بتفاصيل مسودّة مشروع القانون التي رفعته اللجنة المؤقتة لإدارة المرفأ، والذي أشار إليه قرار المجلس الأعلى للدفاع.
علي نور – المدن