خزعبلات جديدة في مصرف لبنان تحقق أرباحاً للمصارف
علي نور – المدن
يستمر حاكم مصرف لبنان، بعيداً عن الأضواء، في ابتداع الألاعيب المحاسبيّة الغربية عن منطق أعمال المصارف المركزيّة ودورها الطبيعي. والممارسات هذه هدفها إعادة تشكيل ميزانيات المصارف ومصرف لبنان، وفقاً لما يراه الحاكم مناسباً، بلا أية خطّة رسميّة توجّه المسار وتضمن عدالة توزيع الخسائر.
وألاعيب الحاكم وهندساته الماليّة، في منأى الرأي العام، أنتجت واحدة من أكبر عمليّات التشويه الممنهج والمتعمّد في ميزانيّات القطاع المصرفي وبنية الكتلة النقديّة، وأدّت إلى خسائر متعاظمة ومتراكمة دفع ثمنها المودعون. واليوم يبدو أن الحاكم عاد إلى عادته القديمة بهندسات جديدة متشعّبة العوائد والأهداف، لكنها تشبه الهندسات القديمة في أثرها الكبير على هيكليّة ميزانيات كل من مصرف لبنان والمصارف التجاريّة.
وأولى خيوط اللعبة كشفها الصحافي الاقتصادي محمد زبيب، فقال إن مصرف لبنان أطلق خلال الشهر الماضي هندسة ماليّة جديدة، تقوم على مبدأ عمليات القطع وإعطاء مصرف لبنان خيار الشراء المستقلبي. وتبيّن أن هذه العمليات متشعبة، وتستهدف مساعدة المصارف على تكوين مؤونات معيّنة من المال العام على مشارف نهاية السنة المنصرمة. كما استهدفت تحرير ميزانية مصرف لبنان من بعض الالتزامات الناشئة عن هندسات سابقة. لكنّ أهم ما في الموضوع، هو كلفة هذه العمليات: المزيد من النقد الذي يقوم مصرف لبنان بخلقه، مع كل ما يعنيه ذلك من أثر سلبي على سعر الصرف.
السحر الأسود
“السحر المحاسبي الأسود”، هو التوصيف الأدق الذي يُطلق اليوم على الشعوذات الدفتريّة في ردهات مصرف لبنان، بعيداً من انتباه الجمهور. فتنقل المليارات من هذه الخانة إلى تلك في ميزانيات المصرف المركزي، وتنفخ بنود الأرباح في ميزانيات المصارف.
بدأ الفصل الجديد خلال الشهر الماضي، ويمنح المصارف خيار شراء الدولارات المصرفيّة من مصرف لبنان، بسعر 1514 ليرة للدولار الواحد. و”الدولارات المصرفيّة” هي دولارات محليّة عالقة لدى مصرف لبنان، ولا يمكن تحويلها إلى الخارج والتصرّف بها خارج النظام المالي المحلي. أي أنها مجرّد “لولار” كما بات يُسمّيها البعض. وهذا يعني أن رياض سلامة بات يعترف بهذه الدولارات المحليّة كجزء طبيعي من اللعبة، ويميّزها عن الدولار الحقيقي. لا بل يساهم في خلقها وتكاثرها في ميزانياته بدل معالجتها. ويمكن المودعين في هذه الحال أن يسألوا الحاكم عن ذلك، بعدما كرس فكرة حبس ودائعهم، بدل أن يحل مشكلتهم.
وبعد أن تشتري المصارف هذه الدولارات المحليّة بسعر 1514 ليرة للدولار، سيمتلك مصرف لبنان، وفقاً لشروط الهندسات الجديدة، القدرة على استعادة هذه الدولارات من المصارف من جديد (بإستخدام حق الشراء المستقبلي، Call Option). لكن شراءها يكون وفقاً لسعر صرف المنصّة البالغ حاليّاً 3900 ليرة للدولار. وهذا يعني أن المصارف تحقق ربحاً سهلاً بنسبة 159 في المئة من خلال هذا الجزء من العمليّة. فكل دولار مصرفي يشترى وبياع وفق هذه العمليات، تحقق المصارف ربحاً قيمته 2386 ليرة. والربح الخيالي هذا يكون بالليرة، ولن تنجم عنه أي كلفة دولاريّة فعليّة. لكنّ هذه الأرباح السهلة تعني عمليّاً الإمعان في خلق النقد بالليرة اللبنانيّة والتوسّع بتضخيم الكتلة النقديّة، والمزيد من الضغط على سعر صرف الليرة. أما رفع سعر دولار المنصّة، بعد تعويم سعر الصرف، فيعني زيادة ربح المصارف من العمليّة، وزيادة قيمة النقد الذي يخلقه مصرف لبنان.
ووفقاً لشروط هذه الهندسات، على المصارف أن تسدد ثمن الدولارات التي تشتريها من مصرف لبنان من شهادات الإيداع التي اكتتبت بها سابقاً لدى المصرف المركزي بالليرة اللبنانية، أو من التوظيفات الطويلة الأجل القائمة. على أن تستعمل هذه السيولة وفقاً لقيمة شهادات الإيداع أو التوظيفات الأساسيّة، مع ربح إضافي بنسبة 1 في المئة. وفي هذه الحال يكون المصرف المركزي قد تخلّص من التزامات سابقة طويلة الأجل تربطه بالمصارف. وإضافة إلى ذلك، تنص صيغة الهندسات الجديدة على تنازل المصارف عن هندسات سابقة بقيمة مماثلة. وهذا يحرر المصرف المركزي من المزيد من التزامات المرحلة الماضية وتراكمات خسائرها.
أهداف متشعبة
تتشعّب أهداف الهندسة الجديدة، وإن كان الأكيد هو كلفتها الضخمة من المال العام الذي يخلقه مصرف لبنان بالليرة اللبنانيّة. وتسمح العمليات بتخفيض التزاماته لمصلحة المصارف. لكنها تسمح له أيضاً بتصحيح أجزء معينة من التشوهات التي تراكمت في ميزانياته نتيجة الهندسات الماليّة الماضية. لكن هذا التصحيح الدفتري أو المحاسبي، المحدود الأثر على الأزمة المالية الفعليّة، يأتي على حساب التوسّع في خلق النقد، الضغط على سعر صرف الليرة في السوق. وهذا يعني أن عموم اللبنانيّين سيتحملون كلفة هذا التصحيح في المرحلة المقبلة.
وتستفيد المصارف أولاً أرباحاً ضخمة، فتعزيز رساميلها وتزيدها. وهي مطالبة بزيادتها بنسبة 20 في المئة. وبذلك تتمكن المصارف من تحقيق جزء وازن من الزيادة بواسطة الأرباح التي توفّرها هذه الهندسات، على حساب المال العام.
وتسفيد المصارف من هذه الخطوة لردم الهوة مؤقتاً في الميزانيات بين التزاماتها وموجوداتها بالعملة الصعبة، وخصوصاً في ما يتعلّق بميزانيات نهاية السنة الماضية. فالكثير من المصارف كانت تعاني من مشكلة الفارق الكبير بين التزاماتها وموجوداتها بالعملات الأجنبيّة. وهو فارق ينبغي تقليصه بحسب تعاميم المصرف المركزي والمعايير المحاسبيّة العالميّة. وهكذا سمحت الهندسة الجديدة للمصارف بشراء هذه الدولارات من مصرف لبنان خلال الشهر الماضي قبل نهاية سنة 2020، أو بالأحرى استعارة الدولارات موقتاً لتحسين ميزانيات نهاية السنة، على أن يستعيد المصرف المركزي هذه الدولارات لاحقاً عبر شرائها بسعر صرف مرتفع. وهكذا تضرب المصارف عصفورين بحجر واحد: تحصد الأرباح، وتحسن ميزانيات نهاية السنة موقتاً.
التلاعب بالأرقام
أخطر ما في الأمر لا يكمن في كلفة العمليات الباهضة هذه، رغم أن اللبنانيين يعانون اليوم من كلفة هذا النوع من العمليات من خلال الضغوط التي تتركها سياسات التوسع في خلق النقد على سعر الصرف. الخطورة الفعليّة تكمن في التلاعب بالحسابات والأرقام وقيمة كل بند من بنود ميزانية المصرف المركزي. وهذه عمليات تتم قبل أن تنجز سلطات الدولة التدقيق الجنائي الكفيل بمعرفة أسباب وخلفيات الخسائر المتراكمة في ميزانيات المصرف المركزي، وقبل معرفة الجهة المسؤولة عن هذه الخسائر وطريقة توزيعها. وهكذا، يقرر الحاكم، المسؤول عن السياسات السابقة، منفرداً هذه الأمور كلبها، بلا أدنى حد من الشفافيّة في التعامل مع الرأي العام.
وهذه الهندسات ليست الوحيدة التي يقوم بها مصرف لبنان متلاعباً بالأرقام. قيمة بند الموجودات المختلفة في ميزانية المصرف المركزي انخفضت بنحو 8.9 مليار دولار في الأسبوعين الأخيرين من العام الماضي. وهذا غير مبرر وغير مفهوم الأسباب. وانخفضت كذلك قيمة المطلوبات المختلفة بنحو 9.8 مليار دولار. وانخفضت الميزانيّة بمجملها نحو 9.5 مليار دولار في هذين الأسبوعين فقط. وباختصار ثمّة عمليات كبيرة وغامضة تجري في الخفاء. وهي عمليات غير تقليديّة ولا تنسجم مع الممارسات الطبيعيّة التي تقوم بها المصارف المركزيّة حول العالم. مع العلم أن هذه العمليات الضخمة جرت في آخر 12 يوم قبل رأس السنة. ما يعني أن مصرف لبنان يقوم بمناورة هدفها للتعامل مع بعض البنود، لتفادي التصريح عنها في ميزانيات آخر السنة.
وفي الخلاصة، لا يبدو أن شيئاً ما يتغيّر في مقاربة حاكم مصرف لبنان للأمور، طالما أنه متروك له التعامل مع الأزمة على هواه، بعيداً عن أي تدخّل أو رقابة، وبعيداً عن أي تدقيق فعلي في طبيعة هذا النوع من العمليات. وبغياب الرقابة يكون علينا تلمّس أثر هذه الخزعبلات المحاسبيّة في ميزانيات المصرف المركزي والمصارف التجاريّة، أو من خلال بعض التسريبات القليلة، من دون أن ندرك حجم هذه الارتكابات أو تفاصيلها.