عون يستغل “ورطة” سلامة: عهد الهدم الشامل سياسة واقتصاداً
لا تلتقي القوى اللبنانية بتنوعاتها على فكرة واحدة يمكن البناء عليها إيجابياً، ولو لمواجهة معضلة واحدة. لكل طرف اهتماماته المختلفة. وهذا عامل أساسي من عوامل الانهيار. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة: أبرزها – سوى تضارب المصالح والجشع في المطامع والمطامح – فقدان الثقة الذي يحول دون أي اتفاق قابل للحياة. وقد يكون لبنان نشأ أصلًا وحمل في طياته تنافر هويات جماعاته وميولها وخياراتها المتضاربة.
أخوة 14 آذار الأعداءلنبدأ مثلاً بعلاقة الحلفاء في ما بينهم. ولنستعد علاقة القوى التي كانت مؤتلفة في ما كان يسمى معسكري 14 و8 آذار. يبن قوى المعسكر الأول، لا ثقة ولا تواصل بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية. والعلاقة بينهما تصل إلى ما يتخطى الخصومة. وكل منهما يتهم الآخر بالكذب والتآمر.
ولا ثقة بين سعد الحريري ووليد جنبلاط. ومن الصعب جداً استعادة بنائها. فما أن يجتمع الرجلان على مبدأ أو كلمة ما، حتى ينفض أحدهما يده من الآخر، فينقض ما اتفقا عليه بصيغة من هنا أو بتسوية تحت الطاولة من هناك.
حزب الكتائب في مكان بعيد جداً عن هذه القوى كلها. وهو يعتبر نفسه من صلب المجتمع المدني والتحركات الشعبية.
والثقة معدومة بين كل من رؤساء الحكومة السابقين، وبينهم وبين سعد الحريري: ما أن يجتمعوا ويتفقوا على أمر، حتى يجد كل واحد منهم الآخرين يغرّدون في سرب آخر. وحين يجتمع الثلاثة، يستريب سعد الحريري من اجتماعهم.
وأخيراً لا ثقة بين الرؤساء الثلاثة: الجمهورية والحكومة والبرلمان.
تنافرات 8 آذار
على الضفة الأخرى، ضفة قوى 8 آذار، تنعدم الثقة بين حزب الله والتيار العوني. أمر لا يحتاج إلى كثير كي يظهر أو ينكشف وينفضح، على الرغم من أن فقدان الثقة مستور أكثر من تناقضات قوى 14 آذار. وانعدام الثقة هذا هو الذي يدفع باسيل وعون إلى التمسك بالثلث المعطل، للإمساك بقرار الحكومة التي ستتشكل.
وهما يريدان بقاء حكومة حسان دياب، في حال عدم قبضهما على الثلث المعطل. وعوامل الثقة منعدمة بين دياب من جهة وباسيل وعون من جهة ثانية. لكن عون يطوّق حكومة تصريف الأعمال بالمجلس الأعلى للدفاع ولقاءات بعبدا، فيما يصادر باسيل قرارها بنسبة الوزراء الموالين له في داخلها.
وهل من حاجة للحديث عن انعدام الثقة والانسجام والكيمياء بين الثنائي عون – باسيل ونبيه برّي، وبين حركة أمل والتيار العوني؟
ونحن في غنى أيضاً عن الإشارة إلى مقدار التنافر بين العونيين وتيار المردة.
أما طلال أرسلان فلا وجود له إلا كحاجة لصوت يعلو حيناً ويخفت أحياناً، وفق ما تقتضيه حاجة عون وباسيل إليه. وهو ارتضى أن يكون على هذه الحال، لأنه لا يمتلك مقومات تفرض التعامل معه كطرف جديّ.
غوغاء ومتاريس
هذه الغوغائية، أو الانهيار الشامل في العلاقات السياسية، يؤديان إلى بابل من المكائد والعداوات والثارات التي هي معدن السياسة اللبنانية، وتسد كل أفق سياسي في البلاد المنكوبة. وهي تسهم في تعطيل مؤسسات الدولة كلها، المهترئة أصلًا. ويشمل الانهيار قطاعي التعليم والصحة، وكذلك القطاعات الاقتصادية والخدماتية. وتتحول إلى متاريس يستخدمها كل طرف وفق عداواته ونكاياته وثاراته.
وكيف يمكن التوافق بين هذه القوى وزعاماتها على تشكيل حكومة؟!
الأزمة طويلة ومستمرة إذاً: عون لا يعتبر أن هناك حاجة لحكومة ما لم يمتلك زمامها وقيادها. فهو يرى أنه الحاكم، ويريد أن يبقى كذلك.. ولو بعد انقضاء ولايته الرئاسية.
ويشمل انعدام التوافق فكرة الانتخابات النيابية المبكرة، التي يطالب بها كل من القوات اللبنانية والكتائب، ويعارضها الآخرون. وطرح مسألة قانون جديد للانتخابات، تعني فتح صندوق باندورا من المصالح الضيقة والتناحرات التي لا تنتهي. وهذا ينطبق على الموقف من رئيس الجمهورية واستقالته والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
طائف مكسور وبطريرك وحيد
والبطريرك الراعي الذي يطلق المواقف دفاعاً عن الدستور داعياً إلى الالتزام به، لا يجد من يؤيده فعلياً. فالقوى المسيحية لم تعد مقتنعة بالطائف. والقوى الشيعية طرفها الأقوى تجاوزه منذ زمن بعيد في ممارسته اليومية وفي تثبيته قواعد سياسية جديدة. أما حركة أمل فتتمسك به من وجهة نظرها، ومن منطلق مختلف كلياً عن جوهر الطائف نفسه. هذا فيما لم تنجح القوى السنية في تطبيقه كما يجب.
والموقف من الحياد الذي يكرره البطريرك الراعي غير واضح ولا ثابت، وغير قابل للتحقق. ما يعني أن لبنان يبقى خاضعاً للتحولات والتطورات الإقليمية.
عون يطارد سلامة
وتتشعب الأزمات وتتناسل: من الواقع النفسي والاجتماعي العسير في العلاقة بين الطوائف والجماعات والقوى اللبنانية، إلى الشقاق السياسي والانهيار المالي والاقتصادي.
وحالياً فتح ملف المصرف المركزي والتحقيق مع حاكم مصرف في سويسرا. ولم تنجح القوى السياسية في الاتفاق على توفير مخرج آمن لسلامة، ليقدم استقالته وتكون القوى قد توافقت على تعيين بديل منه. وهنا أيضاً تدخل حسابات إقليمية ودولية ومحلية، لمنع عون من أن يعين من يريده في هذا الموقع.
وطالما لم يتوفر بديل لسلامة، فإن سلامة باق في موقعه، لتستمر القوى منقسمة من حوله: بعضهم يدعمه والبعض الآخر يريد مواجهته حتى النهاية، ولو أدت إلى إدخاله السجن. أما هو فيبدو واثقاً من أن أحداً لن يتمكن منه، وليس هناك ما يدينه.
المعركة طاحنة. عون يريد استمرارها حتى النهاية. ولو أدى الأمر إلى رفع دعاوى قضائية في كل الدول الأوروبية ضد خصومه.
يستغل عون ظرفاً دولياً، أو غضباً فرنسياً من سلامة ورفعاً للغطاء عنه. فيسعى إلى تصفية حسابه معه، محاولاً التماهي مع هذه التوجهات الخارجية. لكن طالما لا موقف أميركياً واضحاً من سلامة، فإن عون يستغل المعركة للمضي بها في اتجاه خصومه الآخرين.
معارك المزيد من الهدم
حروب داحس والغبراء هذه لن تؤدي إلى أي نتيجة تفيد اللبنانيين أو تهمهم. فهي تحركها ثارات ورغبات في الاستيلاء على مناصب ومكاسب سياسية. ولا أحد يعرف نهايتها.
والانهيار الشامل ماض في سبيله على كل الصعد. وهو ناجم عن الاستعصاء الكبير القائم. وطالما فقدت القوى كلها بوصلة الثقة والأمان واحتمال التوافق، أصبح لا بد من البحث عن معارك شرسة في سبيل المزيد من الهدم. هدم على وقع تطورات وتحولات كبيرة في المنطقة، وكلها تصب في إنهاء دور لبنان أكثر فأكثر.
ويظن البعض أن ما يحدث فرصة لإسقاط هذه المنظومة القائمة، والتي لا يمكن إسقاطها إلا بإسقاط أبرز مقومات بقائها وقوتها: أي النظام المصرفي والمصرف المركزي.
منير الربيع – المدن