سلامة لا يموّل الكهرباء: هاتوا دولارات المساعدات وجمّدوا التدقيق
بين بداية 2020 وبداية شهر تشرين الثاني من العام نفسه، أنفق مصرف لبنان وفقاً للأرقام التي قدمها المصرف للمجلس النيابي ما يقارب 1.1 مليار دولار، من دولارات الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، لدعم سداد مستحقات ومصاريف العقود التي تلتزم بها الدولة بالعملة الصعبة. مع العلم أن هذه الكلفة منفصلة عن كلفة الدعم الذي وفّره مصرف لبنان خلال الفترة نفسها للمستوردين، لدعم شراء السلع الأساسيّة، والتي تقارب مستوى 4.62 مليار دولار. خلال هذه الفترة، كان مصرف لبنان يغطي سداد الدولة لالتزاماتها الدولاريّة الناشئة عن عقود مختلفة في العديد من القطاعات، بمعزل عن أي معيار أو آليّة موحدة ومعللة لتحديد الأولويات، ولاختيار عقود الإنفاق التي تحظى بنعيم دعم المصرف المركزي. وبينما كانت الأخبار تتسرّب عن محسوبيات ووساطات غامضة تدخل دوماً على الخط، لتحديد وجهة الإنفاق هذه، تجاهل مصرف لبنان ومجلس الوزراء معاً ضرورة مناقشة المسألة، ربما لاستفادة كثير من المعنيين والنافذين من تلك الفوضى بشكل من الأشكال.
اليوم، قرر رياض سلامة قلب المعادلة في توقيت مشبوه. ففتح ملف تمويل عقود الدولة من قبل مصرف لبنان بشكل مفاجئ، طالباً مراجعة جميع الآليات التي كانت معتمدة حتّى أمس القريب. توقيت فتح هذا الملف وشكله، يوحيان بأن الحاكم والحكومة دخلا في معركة فتح ملفات متبادلة، ولسان حال الحاكم اليوم يقول: تمويل مصرف لبنان لإنفاقكم لن يكون مجّانيّاً، تريدون التمويل؟ هاتوا دولارات المساعدات الإنسانيّة وعودوا إلى الهدنة في ملف التدقيق الجنائي. أما الضغط على الحاكم في ملفي التدقيق الجنائي ودولارات المساعدات الإنسانيّة، فسيقابله ضغط مضاد في أكثر الملفات الحساسيّة وعلى رأسها ملف تمويل عقود الدولة.
سلامة يرفع السقف عالياً
على حين غرّة، وفي اللحظة التي بات فيها إنتاج الكهرباء مهدداً في معملي دير عمار الزهراني نتيجة تأخر الدولة في سداد ما يقارب 45 مليون دولار من مستحقات الشركة المشغّلة، قرر مصرف لبنان الدخول في لعبة عض أصابع خطرة مع الحكومة. حاكم مصرف لبنان لم يفاوض على المستحقات المترتبة وحدها، بل رفع السقف عالياً من خلال الحديث عن تشكيل مركزيّة واحدة تقررها الحكومة، لتوافق خطيّاً على جميع الفواتير المعروضة من قبل وزارات الدولة المختلفة. كما طلب الحاكم من الحكومة تحديد الأولويات، ووضع دراسة شاملة على جميع العقود الموقعة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان، مع شرح طريقة اختيار الشركات المتعاقدة والتأكّد من آليّة اختيارها.
ما يطلبه الحاكم اليوم بعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر من التفلّت في دعم نفقات الدولة، هو إعادة نظر شاملة في طريقة الدفع وتحديد النفقات التي تستفيد من هذا الدعم. وكان من الواضح أنّ الحاكم تعمّد التصويب على هذه المسألة في أكثر اللحظات حساسيّة، قبيل انفجار أزمة الكهرباء على مصراعيها في حال توقّف الإنتاج، مع ما يعنيه هذا الأمر من تداعيات على المستوى المعيشي. كما اختار التصويب على ملف عقود الكهرباء بالتحديد، الذي يتورّط به مقرّبون من العهد العوني المناوئ له بمصالح وصفقات متشابكة. علماً أن الحاكم لم يتناول الجانب المتعلّقة بعمله فقط من عمليّة تمويل هذه العقود، بل دخل في صلب عمل الحكومة نفسها من خلال طريقة توقيع العقود.
سلامة يريد دولارات المساعدات الإنسانيّة
ببساطة، يريد سلامة من هذه اللعبة الضغط على الحكومة والعهد لفرض تنازلهما في ملفات أخرى. أولى هذه الملفات تتعلّق بمصير دولارات المساعدات الإنسانيّة الواردة إلى لبنان. فبعد أن تفاهم الحاكم مع وزير الماليّة على مصادرة دولارات قرض البنك الدولي لمساعدة العائلات الأشد فقراً، البالغة نحو 246 مليون دولار، ودفعها لمستحقيها في لبنان بالليرة، يسعى الحاكم اليوم لفرض آليّة دفع مشابهة بالنسبة لسائر المساعدات الدوليّة والإنسانيّة المرصودة للبنان، والتي تتجاوز قيمتها 1.5 مليار دولار بالنسبة للعام الحالي. وكما تبيّن من مراسلة وجهها الحاكم لوزيرة الدفاع، يسعى سلامة اليوم لاعتماد “سعر الصرف الإنساني” البالغ 6240 ليرة للدولار الواحد، كسعر صرف معتمد لدفع قيمة جميع المساعدات الخارجيّة للمستفيدين المحليين منها بالليرة. ما يعني تكريس مبدأ وضع اليد على دولارات المساعدات كقاعدة دائمة في المستقبل، وحجبها عن السوق المحليّة الخارجة عن نطاق سيطرة المصرف المركزي.
حتّى اللحظة، لم تتجاوب الحكومة مع فكرة الحاكم، لا بل تشير مصادر عدة متابعة للملف إلى أن رئيس الحكومة نفسه ممتعض من فكرة تفاهم وزير الماليّة مع الحاكم على هذه الآليّة، بالنسبة لقرض البنك الدولي، ومن غير المتوقّع أن يوافق على خطوة بحجم تعميم هذه الآليّة على جميع المساعدات الخارجيّة، كما عبّر العديد من الوزراء سابقاً عن رفضهم لهذه الآليّة، مع ما تنطوي عليه من انتقاص من قيمة المساعدات. مع العلم أن موافقة الحكومة تُعد مسألة ضروريّة لنجاح فكرة الحاكم، خصوصاً أن الحكومة هي الطرف الذي يقوم بمفاوضة الجهات الخارجيّة الداعمة والاتفاق معها بالنسبة إلى آليّات الدفع.
ولذلك، يبدو أن سلامة قرر فتح جبهة عقود الدولة التي يمولها مصرف لبنان في أكثر اللحظات حساسيّة، ليقايض تمويل مصرف لبنان لعقود الدولة بدولارات المساعدات الإنسانيّة التي يسعى لوضع اليد عليها. مع الإشارة إلى أن حاكم مصرف لبنان ألمح بشكل مبطّن إلى هذه المقايضة بالتحديد، في مراسلته التي وجهها أخيراً لوزير الماليّة، رداً على طلبات تمويل عقود الدولة، والتي طلب فيها من الحكومة “تحديد الإجراءات التي ستتخذها لتأمين العملات الأجنبيّة اللازمة للمصاريف والمستوردات الأساسيّة”. ومع الجمود الذي يسيطر على ملف المفاوضات مع صندوق النقد وجميع الجهات المانحة، في ظل حكومة تصريف الأعمال التي يخاطب وزيرها الحاكم، تمثّل دولارات المساعدات الخارجيّة المصدر الوحيد الذي يمكن أن يؤمّن العملات الأجنبيّة، كما يطلب سلامة في مراسلته، إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة واستئناف المفاوضات مع الصندوق.
العودة إلى الهدنة في ملف التدقيق الجنائي
ثاني الملفات التي يحاول حاكم مصرف لبنان مقايضتها بتمويل عقود الدولة هي مسألة التدقيق الجنائي. فبعد إقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة لتسهيل عمليّة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، إطمأن قلب الحاكم لوجود هدنة غير معلنة مع حكومة دياب، لكون القانون “وسّع بيكار” التدقيق ليشمل مؤسسات الدولة الأخرى “بالتوازي” مع التدقيق في ميزانيات المصرف المركزي، ما يعني ضرورة صياغة عقد جديد موسّع وإحالته للحكومة الجديدة بعد تشكيلها، كون حكومة تصريف الأعمال لا تملك صلاحية إقرار عقد جديد موسّع يرتّب نفقات إضافيّة على الدولة. مع مسبق علم الحاكم بأن مطالبة بعض القوى –كرئيس مجلس النواب نبيه برّي- البدء بالتدقيق الجنائي من وزارة الطاقة سيكون كفيلاً بعرقلة التدقيق الجنائي بعد تشكيل الحكومة الجديدة، خصوصاً أن هذه الخطوة ستعني فتح سجال لا ينتهي حول المؤسسات التي يجب أن يبدأ التدقيق بها. لا بل إن الحاكم راهن أيضاً على فرملة حماسة العهد للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان بعد تشكيل الحكومة، بمجرّد تلويح رئيس المجلس النيابي بالمطالبة بإطلاق التدقيق من وزارة الطاقة، التي تخفي أكبر الصفقات المشبوهة المتعلّقة بمقربين من التيار الوطني الحر.
لكنّ خطوات الحكومة الأخيرة خلطت أوراق سلامة وترتيباته بالنسبة للتدقيق الجنائي، وتحديداً بعد أن أصرّت الحكومة على الحصول على فتوى من هيئة التشريع والاستشارات تعتبر فيها أن “توازي” التدقيق في مصرف لبنان ومؤسسات الدولة الأخرى لا يعني بالضرورة “التزامن”، ما يعني أن حكومة تصريف الأعمال قادرة على استئناف التدقيق في مصرف لبنان اليوم، من دون دون الحاجة لتوسيع نطاقه، إذا كانت صلاحياتها لا تسمح بذلك، فيما يمكن استكمال التدقيق بمؤسسات الدولة الأخرى لاحقاً بعد تشكيل الحكومة الجديدة وتوقيع عقد آخر. وفي وقت لاحق، زادت خشية سلامة من تسارع خطوات الحكومة بإتجاه إعادة إطلاق التدقيق، وتحديداً بعد الإصرار على الحصول على كتاب خطي من مصرف لبنان يضمن فيه تعاونه مع طلبات الشركة المتوقعة بعد استئناف التدقيق.
أمام كل هذه التطوّرات، فتح سلامة ملف تمويل العقود في وجه حكومة تصريف الأعمال، في محاولة لفرملة اندفاعها نحو مسار التدقيق الجنائي، ولإعادة فرض الهدنة معها في ما يخص هذا الملف، عبر تأجيل التعامل معه بانتظار الحكومة المقبلة. مع العلم أن سلامة بات يعلم جيّداً أن وجوده في حاكميّة المصرف المركزي باتت على المحك، وتحديداً بعد فتح ملفات التحقيق المتعلقة به في سويسرا، ما يجعل من قضية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان مسألة حياة أو موت بالنسبة له اليوم.
بإختصار، ما زال سلامة يملك أوراقه في وجه حكومة حسان دياب، وفي وجه العهد المتحمّس للإطاحة به. وهذه الأوراق لن تقتصر في المرحلة المقبلة على حلفائه من السياسيين والمصرفيين المتمسّكين بوجوده، بل ستشمل أيضاً قدرته على التحكّم بالموارد التي تعتمد عليها الدولة لتمويل نفقاتها بالعملات الأجنبيّة. وبين إصرار دياب والعهد على مواجهة سلامة حتّى رمق حكومة تصريف الأعمال الأخير، وإصرار سلامة على استعمال كل أوراقه لحماية رأسه، سيكون على اللبنانيين تحمّل تبعات هذه المواجهة خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً إذا أدّت هذه التطورات إلى الإطاحة باستمراريّة الإنتاج في مؤسسة كهرباء لبنان.
المدن