لهذه الخلفيّات وجّه جنبلاط السهام إلى “مَن يستبعدون أنفسهم” عن الحل
ابراهيم بيرم / النهار
قلّة قليلة جداً مَن لا تشهد لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بقدرته الاستباقية على الإحاطة بخلفيات الأحداث المتسارعة، وبراعته في مواجهتها قبل ان يحاصره عنصر المفاجأة. لكن اللافت انه وضع نفسه عصر السبت الماضي عبر تغريدة اطلقها، في موضع الذي استغلقت عليه الامور في فهم “السياسة التي تتبناها قوى داخلية ودول اقليمية، والتي تمنع التسوية الحكومية لوقف الاستفراد والحدّ من الانهيار”.
والامر الاكثر مدعاة للاثارة هو سؤال جنبلاط في التغريدة إياها عن “ماهية الكتاب الذي يتّبعونه، والمخالِف للمنطق، والذي من خلاله يستبعدون أنفسهم بأنفسهم”.
ويمضي الزعيم المخضرم الذي اعتاد ألّا ينطق عن هوى الى استنتاجٍ حمّال أوْجهٍ وتفسيرات شتى فحواه الآتي: “يبدو ان علينا استخدام مجهر اكثر تطورا لتفسير (اتفاق) الطائف”.
الجليّ في كل هذا الكلام ان الزعيم الاشتراكي أراد في هذه اللحظة ان يوجه رسالة مشفّرة ومثقلة بالألغاز الى اطراف الاشتباك والتنازع المباشرين داخل الساحة اللبنانية وخارجها، شاءها ان تكون على هذا النحو من الإبهام، وهي موجهة الى كل الذين باتوا “يخوضون صراعاً تنطبق عليه قوانين المصارعة الرومانية الموغلة في القِدم، والتي لا تنتهي عادة إلا بمصرع اللاعبين معا أو أحدهما، فيما يخرج الحي الباقي مثخناً بالجروح وموشَّحاً بالأحمر القاني، وهم بذا يطيلون أمد معاناة لبنان عبر منع التسوية الحكومية بهدف وقف الاستفراد والحد من الانهيار”.
الرسالة الجنبلاطية عينها تثبت برأي راصدي المسار السياسي لهذا الزعيم انه ما انفك الى الآن عند “العهد والميثاق” السياسي الذي جاهر بتبنّيه منذ ان قرر من خارج كل السياقات والحسابات والتكهنات ان يلج أبواب قصر بعبدا قبل أسابيع ويعقد مع الرئيس ميشال عون جولة أفق سياسية وُصِفت للانتقاص من أهميتها بأنها قصيرة نسبياً، ولكنها انطوت بـ”التقريش” السياسي على أبعاد كبيرة، إذ إنها في لحظةٍ بدت الرئاسة الاولى في خضمّ مواجهة مصيرية وتواجه خطر “الحصار والعزل” من خصومها الكثر، ولو الى أجل غير معلوم، وضعت حداً لتنازع حادّ استمر عمره من عمر العهد الرئاسي إنْ لم يكن من قبل، وتخللته محطات درامية ودموية معروفة.
ولعل عنصر المفاجأة الأكثر دويّاً ان جنبلاط اعلن بعد لقائه الرئيس عون ومن على منبر القصر انه قد تبنّى شعار الدعوة الصريحة الى “تسوية” حكومية من خلال الكشف عن قبوله بصيغة الـ 24 وزيراً ورضاه بان يشارك الشريك الآخر الدرزي النائب طلال ارسلان في التمثيل الدرزي في الحكومة العتيدة، مما يعني تخلّيه التام عن كل ما سبق له ان اعلنه من طروح تتصل بتأليف الحكومة المنتظرة.
في ذلك الموقف المشهود، كان جنبلاط يجسّد بسلوكه التصالحي، برأي الراصدين، سلوك الزعامة الجبلية التاريخية التي تترفع في المنعطفات المصيرية عن الحسابات الضيقة وتحضّ على الخروج من أسارها من أجل بعث الروح في “التسوية المطلوبة المعتادة” بغية انهاء هذا المناخ من الفوضى التي لا تنذر وتعد إلا بعواصف قد لا تبقي ولا تذر.
ثمة مَن يقول في معرض تفسيره لسلوك هذا الزعيم بانه يمتلك وحيداً من بين كل الزعامات الجرأة والقدرة على تغيير مواقفه ومفاجأة الآخرين عبر تبنّي قناعات تبدو احيانا كأنها تعاكس مساره الاوّلي. وأياً يكن من أمر، فان السلوك المستجد لجنبلاط يشي بالتأكيد انه عازم كل العزم على ألا يكون هذه المرة طرفاً في الصراع الحاصل المفتوح على اسوأ الاحتمالات، وانه بذا يفك ارتباطه بكل ما هو حاصل مما يمنحه تالياً حرية اطلاق فيض من التساؤلات المبهمة والاتهامات الخفية الى كل من يعنيهم الامر ليرفع صوته في خاتمة المطاف قائلا ما مضمونه وفحواه: “اللهم اشهد اني بلغت، واللهم اني بريء مما ارتكبوا ويرتكبون”.
في طوايا تغريدته الاخيرة، يبدي جنبلاط ظاهراً “سذاجة الهواة في السياسة” من خلال الاسئلة التي يطرحها، ولاسيما عن الذين “يستبعدون أنفسهم”، ولكنه في العمق يبعث برسالة العارف والمتوجس من أبعاد ما يكمن خلف أكمة المشهد المحتدم.
وفي إحاطة أوسع بخلفيات الرسالة الجنبلاطية التي ينضح من بعض جوانبها لون من الوان اليأس والقنوط من هذه “العبثية السياسية” المتوالية فصولها منذ نحو ثمانية أشهر، ينقل أحد اركان الحزب التقدمي المحيطين به لـ”النهار” ان جنبلاط “يعلن في طيّات كلامه هذا رفضاً مطلقاً للصراع المحتدم الفالت من عقاله بين رئيس التيار الوطني الحر من جهة، والرئيس المكلف سعد الحريري من جهة اخرى، وهو صراع يدفع البلاد الى دوامة استنزاف لا يمكنها ان تتحمل تبعاتها ونتائجها”.
ويضيف: “يبدو كأن التعطيل بات متعمَّداً ومقصوداً، وخصوصا ان التبريرات التي يتسلح بها الطرفان اياهما لتسويغ هذا التعطيل لم تعد مقنعة للكثيرين، وهذه المعادلة المرعبة هي التي تقدّم ضمناً تفسيراً لما قصده رئيس الحزب عندما تحدث عمّن يستبعدون أنفسهم بأنفسهم”.
وأكد القيادي إياه ردا على سؤال ان جنبلاط “ما زال متمسكاً بمنطق التسوية التي دعا اليها وتحدث عنها في أعقاب زيارته لقصر بعبدا، بَيد ان المشكلة هي ان الجميع يعلنون تمسكهم بجوهر هذه التسوية واستعدادهم للسير بمندرجاتها، ولاسيما حكومة الـ 24 وزيراً، ولكنهم كلما توصلوا الى تفاهم حول بند او نقطة معينة نراهم يختلفون حول بند آخر، وهكذا دواليك، حتى بتنا وكأننا امام قرار مضمر من الطرفين المعنيين بالحيلولة دون انتاج الحكومة المنتظرة وإطالة أمد الفراغ الحكومي والاهتراء الناجم عن هذا الفراغ على كل الصعد”.
ثم اشار الى “اننا في المشهد السياسي العام، نحن أمام وعد بالتعطيل والتعقيد. والمشكلة ان هذا العجز الداخلي عن التفاهم وتدوير الزوايا تمهيداً لبلوغ التسوية المنشودة، يقابله غياب لأي طرف خارجي على استعداد لفرض الحل والتسوية. فعلى سبيل المثال، ان دول الخليج التي اعتادت المبادرة والانقاذ معتكفة، فيما الجانب الفرنسي بدا يائساً ومحبطاً بعد ضياع جهود استثنائية ثمينة بذلها لتسويق مبادرة رئيسه منذ آب المنصرم. أما حركة الجانب المصري فهي مشكورة، لكنها بالعمق بدت حركة استكشافية ولم يستشفّ انها حملت مبادرة جدية. وفي الداخل يبدو حزب الله الطرف الاوزن في المعادلة انه لا يريد ان يضع كل ثقله المطلوب لكي يساهم في فرض التسوية الملحّة. وكل هذا مضافا اليه اصرار اللاعبَين على الاندفاع في صراعهما الى النهاية من دون التبصر بالنتائج، يولّد استنتاجاً لا يمكن إلا ان نضعه في نهاية المطاف في خانة “استبعاد النفس بالنفس”، أي بقرار واع، وهي لعبة قاتلة للجميع من دون استثناء”.