الغرب مستعد لتدويل إدارة الانهيار اللبناني بصيغة روسية؟
نبيل الخوري
ماذا بعد إفشال عملية تأليف “حكومة مهمّة” برئاسة مصطفى أديب، ثم برئاسة سعد الحريري، وفق المبادرة الفرنسية؟ كيف ستستمر الدولة اللبنانية في الاضطلاع بمهامها؟ كيف سترمم ماليتها العامة؟ ما هو مصير ما تبقى من خدمات عامة في هذا البلد؟ إنها عيّنة من أسئلة كان يجب ألا تكون مطروحة، لكن انعدام حس المسؤولية عند القوى الحاكمة جعلها تفرض نفسها على الأجندة السياسية. أما الإجابة عليها، فستكون موضع تكهنات لا تُحصى.
واحدة من الفرضيات تقول إن اللا حل في لبنان يفتح الباب أمام احتمال تدويل إدارة الانهيار. ولكن أي تدويل؟ ما هو مداه؟ وما هي محدوديته؟ أسئلة كهذه لا أجوبة نهائية عليها إلا في كواليس المباحثات الدولية، ليس بين الفرنسيين والأميركيين وحسب، بل خصوصاً بين الغربيين والروس. فلا يمكن للقوى الدولية إدارة الانهيار اللبناني من دون إيجاد صيغة تضمن التوفيق بين مصالحها المختلفة. بمعنى آخر، سيكون أي قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي محكوماً بالتفاهم بين العواصم الغربية وموسكو من أجل تجنب أي “فيتو” روسي. هذا يعني أن أي خطوة ستنتج عن هذا التفاهم، كالمصادقة مثلاً على الاقتراح الفرنسي بتشكيل “فريق عمل دولي” مدني، لتنسيق عملية التدخل الإنساني في لبنان تحت إشراف الأمم المتحدة، ستكون خاضعة لشروط روسية.
اتصالات بوغدانوف
يمكن استشراف ماهية ملامح هذه الشروط من خلال سلسلة مواقف أطلقها في الأيام القليلة الماضية، الممثل الخاص لرئيس روسيا الاتحادية في الشرق الأوسط وبلدان أفريقيا، نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف. في 9 تموز 2021، شدد هذا الدبلوماسي الروسي في اتصال مع سعد الحريري، قبل اعتذار الأخير عن تشكيل الحكومة، “على ضرورة الوصول إلى توافق وطني بين كل القوى السياسية والطائفية الأساسية الفاعلة، على مبادئ الوحدة الوطنية ووحدة الأراضي اللبنانية والاستقلال والسيادة”. في 13 تموز، عاد واتصل بجبران باسيل، مؤكداً أنه من “غير مقبول ويأتي بنتائج عكسية، التدخل الخارجي بشؤون الداخلية اللبنانية، وخاصة التصريحات من بعض العواصم الغربية، والتهديد بفرض عقوبات يضر بمبدأ وحدة الأراضي وسيادة الدولة اللبنانية”. في 17 تموز، وبعد اعتذار الحريري، اتصل بوغدانوف مجدداً به، متمنياً أن تؤدي الاستشارات النيابية التي من المفترض أن يجريها رئيس الجمهورية قريباً، إلى “تشكيل حكومة مؤهلة تحظى بدعم جميع القوى السياسية والطائفية القيادية في الجمهورية اللبنانية”.
الشروط الروسية
تريد روسيا إذاً حكومة توافقية لا تقصي أي طرف تقليدي وأي طائفة في لبنان. وهذا يعني ضمنياً أنها لا تحبّذ حكومة مستفزة للطائفة السنية. لكن في المقابل، تعارض موسكو خيار العقوبات التي يتطلع الغربيون إلى فرضها على المسؤولين اللبنانيين، وذلك ضمن منظور روسي عام يرفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للبنان وأي انتهاك لسيادته. انطلاقاً من ثوابت كهذه، سيكون من المستبعد أن يتجه مجلس الأمن نحو إصدار قرار ينص على وضع الدولة اللبنانية الفاشلة تحت نظام الوصاية الدولية، حتى لو لم تجر الانتخابات النيابية والرئاسية في موعدهما العام المقبل. لكن روسيا لا يمكن أن تتجاهل مدى خطورة الوضع الإنساني والاجتماعي والصحي في البلد. وهذا ما قد يدفعها إلى التفكير ملياً بالاقتراح الفرنسي بشأن إرسال “فريق عمل دولي” لتنسيق المساعدات الإنسانية والإنمائية، والتجاوب معه بشروط.
التجربة السورية
ثمة تجربة يمكن البناء عليها في هذا المضمار، وهي التجربة السورية. شكّلت روسيا درعاً دولياً لا يُخترق لحماية نظام بشار الأسد ومنع سقوطه. وظّفت لهذه الغاية كل ما تمتلكه من أدوات وإمكانات: من “الفيتو” في مجلس الأمن إلى الدعم العسكري وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر منذ عام 2015. على الرغم من ذلك، لم تعترض روسيا على الدور الإنساني للأمم المتحدة في سوريا. ففي 2 تشرين الأول 2013، صدر بيان عن مجلس الأمن يحث فيه “جميع الأطراف، ولا سيما السلطات السورية، على اتخاذ جميع الخطوات المناسبة لتيسير الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وجميع الجهات الإنسانية الناشطة في مجال الإغاثة الإنسانية لتقديم المساعدة الإنسانية الفورية للمتضررين في سوريا (…).” تكرر الموقف نفسه مع القرار 2139، الصادر في 22 شباط 2014، الذي “يشجع على مواصلة التعاون بين الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة التابعة لها، وجميع الأطراف المعنية، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني السورية (…)”. أما القرار 2165، الصادر في 14 تموز 2014، فهو ينص على تدبير عملياتي عزّز أكثر فأكثر دور الأمم المتحدة في إدارة الأزمة الإنسانية في سوريا. إذ “يقرر أن الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وشركاءها المنفذين يؤذن لها باستخدام الطرق عبر خطوط النزاع والمعابر الحدودية (…) من أجل ضمان وصول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك اللوازم الطبية والجراحية (…)”.
ألم يتحدث الفرنسيون عن “وكالة” دولية تعمل بإشراف الأمم المتحدة من أجل تنسيق المساعدات في لبنان؟ وإذا كانت روسيا قد وافقت على دور لوكالات أممية متخصصة في سوريا، وهو دور محدود، فلماذا ستعترض على شيء مشابه نسبياً في لبنان؟ بالطبع، الوضع العسكري والأمني في سوريا أضفى على الواقع الإنساني والصحي هناك أبعاداً أكثر مأساوية. لكن الواقع اللبناني بات يستدعي مقاربة أممية جديدة من زاوية المساعدات وعملية تنظيمها. حسابات كهذه يمكن أن تقود إلى توافق روسي غربي على صيغة لتدويل إدارة الانهيار اللبناني، وبالتالي إلى صدور قرارات أممية تتضمن محتوى وصيغاً مشابهة للقرارات التي تتعلق بسوريا. شرط ذلك أن يتعلق الأمر بتدويل ضمن نطاق عملياتي محدد ومحصور بالمهام الإنسانية والصحية والإنمائية.
طمأنة مزدوجة للغرب ولحزب الله
من شأن سيناريو كهذا أن يحوّل روسيا إلى لاعب لا يمكن الاستغناء عنه في لبنان، كما هو الحال في سوريا. ذلك أن أي تعزيز لدور الأمم المتحدة في بيروت سيكون له نتائج سياسية ولو بالحد الأدنى. وروحية هذا الدور ستكون منسجمة عموماً مع قرارات مجلس الأمن كافة، من ضمنها القرار 1559 الذي يطالب بسحب سلاح المليشيات.
من هنا، ومنعاً لتأويلات من شأنها أن تفجر الوضع، يمكن لروسيا أن تؤدي مهمة مزدوجة. كأن ترضي الغربيين، من خلال اضطلاعها بدور ضابط إيقاع قوى الممانعة وحزب الله في لبنان، تجنباً لأي خطوات سياسية استفزازية مفرطة في الداخل ولأي مغامرة عسكرية على حدوده الجنوبية. وفي الوقت نفسه، يمكنها أن تمثل عامل طمأنة لحزب الله، لجهة عدم سماحها بتوسيع نطاق ومدى الدور الأممي.