جنبلاط يتموضع في خط الوسط وتشكيك بعبثية حواره مع “الحزب”
كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
في كل مرة يخرج فيها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عن اصطفاف سياسي معين يستقطب الأضواء وينقسم حول مواقفه البعض بين مؤيد أو معارض. هذا ما حصل عندما وقف جنبلاط في 6 تشرين الثاني عام 2000 تحت قبّة البرلمان ليطالب بإعادة تموضع القوات السورية حتى سهل البقاع، ما دفع بالقوى الحليفة لسوريا وعلى رأسها النائب عاصم قانصوه إلى مهاجمته واتهامه بالانقلاب على الخط الوطني، وبلغ به الأمر كالعادة كما محور الممانعة إلى التشكيك بوطنية جنبلاط من خلال قوله «هو يعلم أن حرباً إسرائيلية على الأبواب يريد أن يلاقي من خلالها حليفه شيمون بيريس مثلما لاقاه عام 1982» قبل أن ينهي كلمته متوعداً «أعداء الخط القومي بأن المقاومة وسوريا وكل الشعب بالمرصاد لكل العملاء المكشوفين والمستورين ولن تحميهم من بنادق المقاومين وحسابهم أي خطوط حمر أو لجوء إلى سفارات».
ولم تهدأ حملة حلفاء سوريا على زعيم المختارة حتى ما بعد عام 2005 مروراً برفضه التمديد للرئيس إميل لحود، حيث شكّل وليد جنبلاط رأس حربة في وجه النظام السوري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط، وجاهر بتحالفه مع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير و«لقاء قرنة شهوان» لإخراج الجيش السوري من لبنان، مطلقاً من ساحة الشهداء أقسى النعوت في حق الرئيس السوري بشار الأسد، مروراً بـ 5 ايار حيث اتخذت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بتشجيع من جنبلاط قراراً بإقالة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير واعتبرت شبكة اتصالات حزب الله غير شرعية وتشكّل اعتداء على سيادة الدولة، وصولاً إلى تحالفه مع قوى 14 آذار في انتخابات 2009 التي نالت الأكثرية من دون أن تستطيع الحكم، إلى أن حلّ عام 2010 حيث ابتعد الزعيم الدرزي عن حلفائه الآذاريين ووصف الكلام الذي صدر عنه تجاه الاسد بأنه «كلام غير لائق وغير منطقي صدر في لحظة غضب وتخل» داعياً «إلى تجاوز تلك اللحظة وفتح صفحة جديدة» استكملت بزيارة إلى قصر المهاجرين في 24 تشرين الاول، ثم بتسمية الرئيس نجيب ميقاتي لا الرئيس سعد الحريري رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة تحت ضغط القمصان السود.
في كل تلك المحطات، كان تغيير جنبلاط لتموضعه يثير الغضب لدى حلفائه في 14 آذار في مقابل إثارة الارتياح والفرح لدى الفريق الممانع الذي يعوّل في كل مرة على تجميع الأوراق لإضعاف خصومه والاستمرار بفرض هيمنته بسلاحه على قرار الدولة اللبنانية مستغلاً تارة منطق التسويات وطوراً المساعي الرامية إلى تجنّب الهاوية. وهذا ما جعل القوى السيادية حالياً تطلق التفسيرات حول أبعاد المواقف المرنة التي بدأ زعيم المختارة بانتهاجها تجاه حزب الله والتي لم تقتصر على هذا الانفتاح بل أصابت شظاياها البطريركية المارونية على خلفية توقيف راعي ابرشية حيفا والأراضي المقدسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج وعلى خلفية انتقاد طرح الحياد، كما أصابت حزب القوات اللبنانية الذي لم يمر 3 أشهر على التحالف الانتخابي والسياسي بينه وبين الحزب الاشتراكي في الشوف وعاليه وبعبدا، والذي تخلله خطاب عالي السقف ضد حزب الله واتهامه بمحاولة حصار وتطويق المختارة.
وما يقلق القوى السيادية هو أن تتمدّد الاستدارة الجنبلاطية حتى الاستحقاق الرئاسي الأمر الذي يستفيد منه محور الممانعة لمحاولة إيصال رئيس من فريق 8 آذار يشكّل امتداداً لمرحلة حكم الرئيس الحالي ميشال عون. ومن المعروف أن علاقة جيدة تربط جنبلاط برئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية الذي كانت حظوظه مرتفعة عام 2016 وتلقّى اتصالاً هاتفياً من الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا أولاند وكاد ينال 70 صوتاً في مجلس النواب، لولا وعد حزب الله للعماد عون بانتخابه ولولا رفض القوات اللبنانية انتخابه. وإذا كان زعيم المختارة يسوّق لمرشح وسطي لا يشكّل تحدياً لهذا الفريق أو ذاك ويسعى للعب دور «بيضة القبّان» من جديد، إلا أن الفريق السيادي، الذي بدأ حشد قواه وعقد اجتماعات مع القوى التغييرية لتنسيق الموقف من الاستحقاق الرئاسي، يخشى انزلاق جنبلاط إلى المرشح الذي يطرحه حزب الله، الأمر الذي يمكّن فريق 8 آذار من الحصول على النصف زائداً واحداً المطلوب لانتخاب رئيس الجمهورية. لكن هذا الفريق قد لا يتمكّن من تأمين أغلبية الثلثين ولاسيما إذا إصطفّ أكثرية النواب السنّة إلى جانب القوى السيادية والتغييرية، ما يحول دون تأمين وصول رئيس من فريق الممانعة على الرغم من المواصفات التي تميّز فرنجية عن عون.
وفي محاولة لطمأنة القوى السيادية ومعها البطريركية المارونية جاءت زيارة رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب تيمور جنبلاط إلى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي برفقة النائبين أكرم شهيب ووائل أبو فاعور وتأكيده على «الشراكة الوطنية والتاريخية الثابتة التي بدأت بمُصالحة الجبل وستستمر في المستقبل لمصلحة لبنان ولاستقلاله ولسيادته رغم كل الضغوطات والمواقف السياسية» كما جاء في تصريح جنبلاط الابن.
وكانت أوساط الحزب الاشتراكي ردّت على ما سمّتها «الهجمة» على جنبلاط، معتبرة أنها «ليست غريبة حين تعجز الواقعية السياسية عند البعض عن التقاط مؤشرات المرحلة، وما تحمله من جديد للبلد». وقالت «الهجمة على جنبلاط باتت معتادة عند كل موقف يدلي به، حيث هناك من يؤيد ومن يرفض، لكن غالباً ما يعودون لاحقاً، ليتأكدوا من أن جنبلاط كان قد اتخذ الخيار الصحيح من أجل لبنان ومستقبل البلد». وأوضحت «أن انفتاح جنبلاط على حزب الله، أتى بعدما أثبت جنبلاط في الانتخابات النيابية أن كل محاولات التطويق والإسقاط التي كان يمارسها حزب الله أو غيره سقطت، وبالتالي ما يجري اليوم هو اعتراف أولاً بالدور الوطني الكبير والتاريخي لجنبلاط من قِبل حزب الله قبل غيره». وأكدت الأوساط «إيمان سيّد المختارة بالحوار في محاولة لإحداث خرق في جدار الأزمة» ورأت أنه «يطبّق مبادئه التي لم يحِد عنها أبداً، على عكس ما يُتّهم به من هذه الجهة أو تلك».
يبقى أن الزعيم الدرزي، الذي كان قلّل بنفسه في وقت سابق من أهمية الحوار مع حزب الله نظراً للتجارب العبثية والفاشلة وانقلابه على النأي بالنفس وإعلان بعبدا وعدم نجاح التحالف الرباعي في لببنة الحزب، يحاول توفير الأمان لطائفته وحمايتها من أي عواصف هوجاء أو تهديدات تتأتى من «جيرانه» الذين باتوا على تخوم الجبل، وينطلق من اعتبار أن طائفة الموحدين الدروز تحوّلت إلى أقلية شأنها شأن المسيحيين في لبنان ولا قدرة لها على تحمّل أي هجرة أو أي انهيار اجتماعي واقتصادي أو إضطراب أمني. لكنه يغفل عن مدى تعلّق الدروز والمسيحيين بأرضهم وكيف واجهوا مراراً كل محاولة لاقتحام مناطقهم أو استخدامها لمآرب حزبية كما حصل في شويا وعين الرمانة، ويغفل عن المستوى المتقدم الذي بلغه الجيش اللبناني عتاداً وعديداً والذي لن يبقى مكتوف اليدين حيال أي محاولة لتكرار 7 أيار جديد في بيروت أو 11 أيار في الجبل.