هذا ما تبقّى من إيران ونفوذها في لبنان والمنطقة!
أتكون مصادفة إعلان دونالد ترامب موجة العقوبات الثانية على إيران، وإعلان فرنسا قرار اعتقال ثلاثة ألوية سورية على رأسهم المجرم علي المملوك، لتورطهم في عمليات التعذيب «الغرائبية» التي يمارسونها داخل السجون السورية وخارجها؟
طبعاً العقوبات الأميركية شاملة من شأنها شلّ الاقتصاد الإيراني، بكل آثاره على الشعب الذي يجد نفسه بين مطرقتَي النظام القامع والمجنون بهلوساته الامبراطورية، وبين أميركا ترامب المصرّة على تجفيف مصادر تمويل النظام للحدّ من تدخّلاته وحروبه على محيطه وأبعد منه.
العقوبة الفرنسية على الضباط السوريين ليست «يتيمة» كما يبدو، لكن دولاً أوروبية أخرى تحضّر ملفات وتقارير دامغة عن فنون التعذيب التي يمارسها نظام الأسد وما تبقّى منه وهو شحيح. فبريطانيا والسويد وألمانيا والبلاد الاسكندنافية، هي في سياق ترتيبها لإعلانها.. وهذه العمليات ليست إبنة ساعتها بل تعود إلى عام 2005.
لكن ما هو مُلتبس أن بعض الدول الأوروبية هذه تمانع العقوبات الأميركية على إيران، وكذلك إلغاء الاتفاق النووي معها، وهذا يعود إلى مصالحها الاقتصادية. وهنا بالذات تتناقض هذه المصالح الاقتصادية مع السياسية وحتى القضائية. كأن اتخاذها مواقف بإدانة انتهاك حقوق الإنسان في السجون الأسدية، رفع عتب بالنسبة لذلك النظام، أولاً لاستمرار تأييدها بقاء الأسد في السلطة، وثانياً تحييدها رأس النظام الآمر الناهي في مثل هذه الأمور الإرهابية.
فأوروبا المتناقضة بين «قيمها» التاريخية، كأنها تبدو، من مواقعها، بلا قرار، خصوصاً بما يتعلق بدور إيران في سوريا وميليشياتها («حزب الله» من لبنان)، والحرس الثوري (15 ألفاً)، وفرق سليماني (10 آلاف)، لا يدافعون عن الأسد (أصلاً) بل عن تمسّكهم بالبقاء في سوريا (برغم هزيمة الإرهاب الداعشي، حليفهم وصنيعتهم). بل أكثر من ذلك: انتشار الترهيب الخامنئي في دول مجاورة عدة (اليمن، العراق، لبنان)، وصولاً إلى زرع خلايا تخريبية في الكويت والإمارات.. وبعض المدن الأوروبية وصولاً إلى مصر (قبل ثورة الربيع العربي) والجزائر في الفترة الأخيرة.
لكن ما هو خطر بالنسبة إلى لبنان، أنه بسبب الضعف المتنامي لنظام الملالي داخلياً (من خلال الموجات الاحتجاجية والوضع الاقتصادي الآيل إلى الانهيار)، وفي الخارج (كأن العراق بدأ يخرج من تحت الهيمنة الإيرانية بوجود معارضة قوية تطالبه يومياً بمغادرة العراق)، والهزيمة الملوحة للحوثيين في اليمن أخيراً (وتحديداً في الحديدة)، لم يتبقَ له سوى لبنان، وحزبه (الإيراني) الهوى والتربية والهوية. ليكون لبنان مركزاً مهماً (كولاية من ولايات الفقيه الأخيرة)، للاستمرار في مخططات تخريبية وإلى الجوار وأبعد.
الحزب..
فالحزب المُتّهم باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ما زال، على وَهَنِه، «صامداً» في دوره الإيراني التخريبي، وفاءً له، على عطاياه وجوده (700 مليون دولار سنوياً، وعدّة مليارات للنظام السوري، ومليارات للحوثيين)، والدليل على ذلك إخراج الحزب من أكمامه الخامنئية أزمة تأليف الحكومة من خلال مطالبته بتوزير (أو تزوير)، وزير سُنَّة من حلفائه (المستقلين)، ممّا أعاد التأليف إلى مربّعه الصفر. إنه الدور الإيراني «الحيّ» في لبنان والمحتضر في بلاده ومساحات «هلاله المذهبي» (الذي انكسر على رؤوس أهل هذا النظام المجنون).
العجز
فالعجز المتفاقم لنظام الفقيه، تحت ضربات العقوبات الأميركية، لم يردعه، حتى الآن، لا عن الاستمرار يائساً في مخططاته، ولا في إقفال حنفيات تمويل الإرهاب. لم يُبقِ لشعبه شيئاً، غير الفقر، والعوز، والبطالة، وإفلاس المؤسسات.. واليأس، لكن بقيت الروح المقاومة عند هذا الشعب، الذي لم تؤثّر في عزيمته، لا شعبوية النظام في ردّه العشوائي على العقوبات الترامبية «الموت لأميركا»، و«سننتصر سننتصر»، بتظاهرات جمع فيها مَن تبقّى له من المتطرّفين المذهبيين، والقوميين الفرس، ليس فقط للردّ على أميركا، بل أيضاً للالتفاف على التحركات الشعبية المعارضة والمزمعة والتي ينتظرها هذه المرة بالخوف من سقوطه وبالقمع الشديد، والقتل، والاتهام بالخيانة والعمالة للسعودية ولأميركا.. شأنه في ذلك شأن «أسده» السوري عندما واجه تظاهرات الربيع السوري بالقتل، والمجازر واتهام هؤلاء بالإرهاب، ثم باختراع «داعش» ليَصِمَهم بإرهاب مضاعف.
الانتخابات الأميركية
وقد انتظروا نتيجة الانتخابات النصفية في أميركا لعلّ هزيمة ترامب، تنعش آمالهم بتغيير استراتيجية ترامب، في حال هزيمته: لكن الكونغرس ربحه «عدداً» الديموقراطيون لكن ضمن انقسام عمودي، ومجلس الشيوخ سيطر عليه الرئيس الحالي، يعني تأصيل الاستراتيجية الترامبية بتجفيف منابع الإرهاب المالي المُستخدَم في حروب إيران ضدّ جيرانها العرب وضدّ العالم.
الديموقراطيون
أما الديموقراطيون، فمن قال إنهم لن يستمروا في السياسة التي تضعف جنون هذا النظام.. صحيح أن ولاية أوباما آخت إيران، وأنزلتها منزلة عليا، وامتنعت عن التدخّل في سوريا في بداية الثورة الشعبية، لتمنح إيران فرصة الالتفاف على هذه الثورة وإنقاذ النظام، وتوقيع الاتفاقية النووية التي كانت لمصلحة إيران، وكذلك الإفراج عن مبالغ طائلة تُعدّ بالمليارات لنظام الملالي ليُتاح له التصرّف براحة في امبراطوريته «الهلالية». لكن المعروف أن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في عهد أوباما، أيّدت التدخّل الأميركي في سوريا، تأييداً مطلقاً، من دون أن تصطدم بحليفها الديموقراطي الرئيس أوباما. فالرهان على الديموقراطيين، كالرهان على السراب في الصحراء. سراب بسراب. ولا نظن أن الديموقراطيين «المنتصرين» في الكونغرس انتصاراً جزئياً، لأن النتائج أفرزت تعددية في الرابحين، سيطالبون ترامب باستعادة الاتفاقية النووية الأوبامية. ولا سيصروّن على «تغيير العقوبات» الترامبية على إيران. فهمومهم أخرى، واستراتيجياتهم داخلية كما هي خارجية، وسينظمون معارضة ضدّ ترامب حول مسائل أخرى، حول إنغلاقه عن العالم، أو إغلاقه الحدود المكسيكية – الأميركية، أو سياسته تجاه المهاجرين أو العمل على استعادة «قانون التأمين الصحي» الذي أبطله ترامب (وحرم أكثر من 30 مليون أميركي من الاستشفاء).. لأن الرهان على الورقة الإيرانية كما يفهمها ترامب خاسرة أصلاً في السياسة الأميركية الداخلية، وهي ترتدّ لمصلحته، لا سيما عند الانجيليين والقوميين المتطرفين.
.. ورهان الملالي
حتى رهان الملالي على بعض أوروبا، لا يجدي كثيراً. فالورقة الاقتصادية العالمية، هي في الدولار نفسه، وعند الأميركيين، ليبقى تأثير أوروبا محدوداً جداً قد لا يتجاوز الدور الإعلامي. أما روسيا، فهي أيضاً تحت سيف العقوبات، وكذلك تركيا التي تعاني أزمة اقتصادية كبيرة، ليست في حجم الأزمة الإيرانية حتى الآن، ولكن في أحجام بعض أزمات الدول الأوروبية الأخرى.
وهنا العزلة الكبرى: فإيران التي «وسّعت بساطها إلى أكثر من حجمها وهيكلها»، تشعر حالياً، (وخصوصاً شعبها العظيم)، أنها مثل «يتيمة الدهر»، تحصد ما زرعته من رياح ونيران وعواصف وجنون في العالم، ما حدا بالبعض إلى القول: إن خامنئي إيران في طلوعه وفي سقوطه يشبه هتلر بهلوساته وأمجاد النازية التي ستحكم العالم ألف عام! ولا تختلف هذه الهلوسات الخامنئية عن الهلوسات الفوهررية، أو الفاشية. فإيران تتراجع على كل الجبهات، وما زالت الخيلاء توجّه ألسنتها. الهزائم تحاصرها، وما زالت تعزف أناشيد النصر: هتلر كان في «القبو»، وقوى الحلفاء على بُعد مسافات قصيرة منه، وكان يهلوس بإمكانية ردّ الهجوم وتحقيق الانتصار. إنها أمراض النرجسيات الفردية والجماعية، تكسر المرايا أمام وجوه هؤلاء المنفصمين عن الواقع.
صحيح أن حزب الله، ما زال آخر «واحات ولاية الفقيه الدموية»، وصحيح أنه قادر على ممارسات سلبية تؤذي لبنان، وأبعد منه، وصحيح أن عرقلة الحكومة جدّية تتّصل بالظروف السياسية المتعلقة بإيران، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا الحزب بات مُحاصَراً داخلياً (كالنظام الإيراني) وخارجياً. داخلياً، إن أكثرية اللبنانيين يجدون أن «صحوته» على «سُنَّة 8 آذار»، كأنها نومة الضمير، والتعامي عن مصالحهم، وأزماتهم، بل يحسّ بعضهم (ومن بيئته بالذات)، أن مثل هذه المواقف الآن هي نوع من الانتحار، انتحار الحزب ونحر بيئته التي عانت منه الأمرّين، وهي حالياً متصدّعة في ولائها له. لكن سياسة الحزب كسياسة النعامة، تبحث عن وضع رأسها وعينيها في الرمال، لتعمى عن الواقع.
مثل هذا الكلام مبالغ فيه؟ ربما! لأن الحزب لا يرى في هذه الخطوة سوى أنها «رأس جبل الجليد»، وأنه يخبئ في أكمامه «أرانب» وديكة.. عديدة، يعرف أنها تشكّل ضغطاً على لبنان، وبالتالي على دول الغرب، مساندة لأربابه. بهذا المعنى، نعم! فكما أن نظام الملالي لم تهمّه إطلاقاً هموم شعبه، ومعاناته، ومصالحه، فهذا الحزب من مدرسته: آخر همومه لبنان، وخصوصاً طائفته (وهو لا يتردّد في سوق شبابها إلى حروب وموت كرمى لمموليه ورعاته). فالمصدر والفرع يتشابهان، وأحياناً يلتقي الذنب والرأس، فيا للمفارقة! من هنا نقول إن سياسة الملالي هي المسؤولة الأولى عمّا آل إليه الوضع في إيران، من فقر، وفاقة، وانهيار العملة، والاقتصاد والعزلة، وليس فقط ترامب. فهذا الأخير (كالأوروبيين) لا يريد إسقاط النظام بل تحويل مساراته، وتجفيف ينابيعه المالية، وإضعافه. والشعب الإيراني، إذا عدنا إلى شعاراته، نجد أنه تجاوز في مطالبه الوضع الاقتصادي وركّز على النظام نفسه: «فليسقط هذا النظام»، و«الموت لخامنئي»، أي أن الشعب (العظيم) هذا (الذي لا نتمنى له سوى الخير)، سبق ترامب وأوروبا في المطالبة بالتغيير الشامل ليس في سياسة السلطة، بل بتغيير السلطة نفسها! وسبق الجميع بالمطالبة في خروج بلاده وميليشياته وعسكره من العراق واليمن ولبنان.. وتوفير كل مليارات الحروب والفتك والأموال والأسلحة وتحويلها مشاريع حيوية لهم.
على هذا الأساس، ينبغي ألا نخلط في مقارباتنا بين الشعب ونظامه (أو بين حزب الله وطائفته)، فهما أصلاً باتا على نقيض، بلا تردد بعض الغربيين في مواقفهم، ارتباطاً بمصالحهم الاقتصادية وشركاتهم واتفاقياتهم التجارية.. الشعب الإيراني يسبق كل المعترضين على إيران مرتين، مرة في 2009 بثورته ضدّ فساد الانتخابات ومرة اليوم بمطالبته بسقوط هذا النظام الذي لم يعد صالحاً.. لا للحكم، ولا للوجود..
بول شاوول/المستقبل