اتّفاق الطائف مُغتالاً بأوهامٍ أربعة!
لم يعتَد اللبنانيون احترام الدستور ولا تطويره بنُضج. منذ ما بعد عمالقة السياسة ورجالات الدولة سقطت مسَلّمات أي تسوية في افخاخ الاستنفاع. اتّفاق الطائف اغتيل باستشهاد الرئيس الراحل رينيه معوّض. لم يُطبّق هذا الدستور الذي صَنع روحه كبارٌ قبل زعماء الميليشيات التي قامت بحُكم الأمر الواقع، لم يطبّق أبداً. ها هو الآن يخضع لِشيطَنَةٍ يضفيها عليه من لم يقرأه، ولم يفهمه، ويمارس فيه تشويهاً شعبويّاً. كم هو البَون شاسع بين الدستور الحُكم، والسُلطة – الحصة. لا حاجة للاسترسال في توصيف هذا البون الذي يصِحّ فيه القول: “لَم نتعلّم ولن نتعلّم”. في أيّ حال، يتبدّى جليّاً، وبالاستناد الى سياق الارتباك الفوضوي الممنهج الذي يجاور قرفنا تجاه مسار تشكيل الحكومة، أن الأزمة أبعد بكثير من ثلث ضامنٍ / معطِّل، أو توزّع حقائب، أو تنافس غير مشروع (لإنتفاء المنطق الدولتيّ فيه) على الخدماتي والسياديّ. والأبعد بكثير مفاده تشوّهٌ جيني، ليس في الصيغة اللبنانية الميثاقية، بل في أنساقٍ إدارة هذه الصيغة. وأنساق هذه الإدارة العوراء قائمةٌ في سماح صنّاع القرار لأنفسهم باستباحة الدستور، أو تعليقه، أو تطويعه، أو اغتياله. ولأن كلفة كلّ ما سبق موجعَة في تغيير النصوص، فمن الأجدى بمكان فرض أعراف وممارساتٍ تحتكِم الى موازين القوى (عفواً ميزان القوى إذ ليس من توازن ليصِح الحديث عن موازين) بحكم الأمر الواقع وهنا بيت القصيد. في مقابل كل ذلك تسقط دولة الدستور، ودولة القانون، ويُساهم في هذا السقوط المريع حيث الاتجاه سالكٌ نحو التموضع في حيّز تصنيف “الدولة الفاشلة” يُساهم في ذلك أوهام أربعة يسوقها طائفيّون لا علاقة لهم بطوائفهم، بِقدر ما لهم انحيازٌ لمصالحهم الضيّقة. ولا علاقة لهم بالميثاقيّة بقدر ما لهم انسياق للعنترة المشبوهة تحصيناً لمكتسباتهم الآنية. ولا علاقة لهم بفكرة لبنان الحوار والعيش معاً بقدر ما لهم تمترُسٌ في لاوعي العودة الى ما قبل تسوياتٍ تاريخية بدأت بالعام 1943 ومرّت باتّفاق الطائف، لتحاول الاستقامة الواقعيّة في تلاقٍ بين التحرير (2000) والتحرّر (2005). هذا التمترس على كثيرٍ من المرضيّة الشوفينيّة، أو التراكميّة الانهزاميّة، أو الانسيابيّة الانكفائيّة. وبالاستناد الى هذه المرضيّة، والتراكمية والانسيابية يُقتضى لنا تفكيك هذه الأوهام على النمط الديريديّ (Derrida). 1- وهمٌ مسيحي: “القوّة المستعادة” نوّابٌ أقوياء، وزراءٌ أقوياء، تعطيلٌ لموقع الرئاسة الأولى حتى الاقتناع بـ”الرئيس القوي”. اتفاق الطائف مُجحِف. نُهادنه حتى القدرة على الانقلاب. هذا هو لسان حال كثيرٍ من المسيحين. للأسف لم يقرأوا اتفاق الطائف من باب ميثاقيته بل من نافذة أنه غَبَنَهم صلاحيّات. تناسى هؤلاء معطوبيّة الحُكم الذي مارسوه. “القوة المستعادة” وهمٌ مسيحي يُقتضى معالجته. فؤاد شهاب الصامت والمترفّع والنزيه كان ذاك الدَّفع الأقوى لبناء الدولة. لم يسقُط شهداء لندافع عن قوة زعيم بل ليبقى لبنان رسالة. 2- وهمٌ سنّي: “حذارِ صلاحيّاتنا” أناط اتفاق الطائف الحُكمَ بمجلس الوزراء مجتمعاً. كان همُّ مؤسّسي الجمهورية الثانية أن تقوم دولة فيها دستور ومؤسسات. الحقوق فيها للأفراد. الضمانات للجماعات. أتى الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأوقف العدّ الديموغرافي. في عزّ حقبة الاحتلال – الوصاية لم يتحدّث عن صلاحيّات. كان يعنيه قيام الدولة. قد يكون أخطأ في بعض الأداء أو كثيره لكنه لم يضيّع البوصلة الكيانيّة. “حذار صلاحياتنا” وهمٌ سنيّ يُقتضى معالجته. رياض الصلح الجريء عَنَته العروبة في أوجّها لكنه نظر الى لبنان كنموذج حضاري، وليس كموقع نفوذ. 3- وهمٌ درزي: “لِنَحمِ جماعتنا” طرح كمال جنبلاط صيغة تطويرية للنظام اللبناني. تفوّق فلسطين في خياراته أخلاقي نضالي لكنه كاد أن يجهض الصيغة اللبنانية. لم يرضخ كمال جنبلاط لموازين القوى. اغتيل وبقي شامخاً. يمكن أن نفهم الهاجس الوجودي لدى الدروز، لكن أ يقبلوا صمتاً تجاه القضم الكامل للدولة انطلاقاً من براغماتية “هذا أكبر منا”، فذاك تخلٍ عن دورٍ تاريخي مارسوه من أجل قيام لبنان. “لِنَحمِ جماعتنا” وهمٌ درزي يُقتضى معالجته. التسوية ثوابت في الحكمة أكثر منه انعطافاتٍ مع الرياح أيّاً كانت اتجاهاتها الأقوى. 4- وهمٌ شيعي: “إنه زمننا” انتفاخ القوة انتحار. لم تكن هذه فلسفة علماء جبل عامل. ليس هذا ما قال به الإمام المغيّب موسى الصدر. مشتاقون بتنا لنستعيد وصايا الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين. “إنه زمننا” وهمٌ شيعي ما فوق الدولة، بل ما فوق الأمة، يُقتضى معالجته رأفةً بفِقه المواطنة والدولة المدنية. مُنهِكٌ سيكون السعي لتفكيك هذه الأوهام الأربعة. الى حين نجاح المحاولة هذه أو فشلها كم سيتناثر لبنان، كم سيسقط لبنانيّون…! مات لبنان ميشال شيحا وشارل مالك وغسان تويني وسليم عبو للأسف!
زياد الصائغ/mtv