سنّة لبنان وسعد الحريري: ماذا ربحوا وماذا خسروا؟
ليس صدفة أن تكون عملية تشكيل الحكومة اللبنانية تشارف على
خواتيمها، في لحظة إقفال مؤسسة إعلامية تابعة لرئيس هذه الحكومة. المنطق
الذي أديرت فيه المفاوضات الأخيرة لعملية التشكيل، والخانة التي حشر الرئيس
سعد الحريري نفسه فيها، وهي الخانة السنّية، لا تختلف عن حال الانحدار
الذي أصاب مؤسسته الإعلامية. المسألة ليست محصورة بـ”أزمة مالية”. وهي ليست
مشكلة سعد الحريري وحده شخصياً. هي عبارة عن مشكلة اجتماعية عامة، سنّية
حالياً بمعناها المشهود، لكنها تعبّر عن إشكالية عميقة تصيب المجتمع العربي
ككلّ، يمّثل لبنان صورة جليّة عنها.
الرعية وزعيمها
ليس
تفصيلاً حال الانقسام السنّي، الذي ظهر في مشهدية تشكيل الحكومة، والذي
تغذّى بفعل عوامل تدخّل خارجي، استطاع الدخول إلى البيئة الشعبية السنية
التي يرتكز عليها سعد الحريري، وعملت على تشتيتها. فأصبح واقع السنّة،
كواقع الطوائف الأخرى، من دون التمييز بين أكثرية وأقلية. انعدم الفرق بين
المعادلتين. والأزمة العميقة التي تعيشها هذه البيئة الاجتماعية، وفق
المنطق الدولتي أو الطوائفي القائم.. يمكن الاستدلال عليها بسهولة، بمجرد
النظر إلى حال الانقسام الذي عاشه السنّة على مختلف تنوّعهم أو اختلافهم
السياسي. فمثلاً وُضع السنّة في مواجهة بعضهم البعض، ما دفع الحريري للجوء
إلى حلفائه من خارج المنظومة السنّية، طالباً منهم المساعدة، بالتنازل عن
مواقع أو حصص، لإرضاء حلفاء آخرين من طوائف مختلفة أيضاً.
وما أصاب الحريري في مجتمعه، أصاب دائرة أضيق أيضاً، وهي حلقة
“اللقاء التشاوري”، الذي انقسم على نفسه إلى ثلاثة أقسام، كان المتحكّم
الأساسي فيها منطق “الوراثة”، أو من يرث الدور أو المنصب، وهذا ما تغلّب
على ما عداه من شعارات رُفعت سابقاً. ولا حاجة للشرح أصلاً في كيفية اصطناع
هذا اللقاء، بل يمكن الاكتفاء بحال الخلاف والانقسام الذي عصف به مؤخراً،
على خلفية تسمية الوزير الذي سيمثّلهم. وقبلها، الخلاف حول تسوية جواد
عدرا. هو المنطق الذي يتحكّم بصراعات السنّة بين بعضهم البعض. وهذا يعود في
أحد أسبابه الرئيسية إلى غياب الرؤية، والارتضاء بالتحول إلى فريق قلق،
يبحث عن من يمثّل مصالحه. فغدت العلاقة طردية بين الرعية والحاكم (أو
الزعيم). الرعية تبحث عمن يمثّل صوتها الصارخ، والحاكم يبحث عن الاختباء
خلف رعيّته لتحقيق مكاسبه.
وعي أقلّوي
تاريخياً، لم يكن
الحضور السنّي في لبنان أسير القلق الطائفي. لطالما كان السنّة أبعد الناس
عن المخاوف، انطلاقاً من التيارات العروبية أو القومية ومساحاتها الرحبة أو
شعور امتداد “العالم الإسلامي”. وفي استرجاع بسيط لشريط الزعامات
التقليدية القديمة، كانت الحسابات الانتخابية مناطقية وغير مذهبية. رياض
الصلح مثلاً بنى زعامته انطلاقاً من جنوب لبنان، وفي وقت كان ناخبوه
بأكثريتهم شيعة وليسوا سنّة. فلم يأتِ من عصبية سنّية. كان ينظر بأفق أوسع.
أسس لثنائيته مع بشارة الخوري، بلا أي عقدة خوف، ولم يكن أسير قلق
الإلغاء. هذا ما يحتّم الانطلاق إلى أفق واسع. أما ذهنية الخوف أو الإلغاء،
فغالباً ما تضيّق أفق المرء، للإحتماء وراء جماعته الصغيرة.
أخطر ما يمّر به السنّة مرحلياً، هو تحويلهم إلى طائفة. هذه
العملية تدرّجت تاريخياً بشكل متتابع، وفصلتهم عن ظهيرهم العربي، وامتدادهم
الواسع. هذا ما جعلهم ضعيفي الثقة بحضورهم وبأنفسهم. رحابة السنّة لم تكن
تمنع وصول فارس الخوري رئيساً للحكومة في سوريا، ولا حتّى مجيء حافظ الأسد
العلوي إلى رئاسة الجمهورية. لطالما كان السنّة يستوعبون الآخرين، نظراً
لعددهم اإمتدادهم. وهذا ما يرتبط بوعي الأكثرية. لكن أخطر ما تعرّض له
السنّة، هو حشرهم في خانة الطائفة بمعناها العصبوي، لتتمكن منهم مشاعر
الأقلية وتتلبسهم الهواجس الأقلوية.
كحال المسيحيين
ينطلق
السنّة سوسيولوجياً من مبدأ الجماعة غير القلقة. الشعور بالإرتياح والركون
إلى عناصر القوة داخل جماعة السنّة، لا يجري الاستفادة منها في السياسة.
هذا بالضبط هو العطب الذي سمح للآخرين بالتسلل سياسياً وثقافياً
وأيديولوجياً وتحويلهم إلى طائفة تتنازعها الأهواء والانقسامات واللاثقة،
على غرار الطوائف الأخرى. وفيما كان السنّة يحملون مشروع بلد، أو رؤية
دولتية ضمن مشروع عام، لا يتعلق بجماعتهم فقط، بل بكل المكونات. تماماً كما
كانت حال المسيحيين سابقاً، والتي كان التعويل أساسياً عليها، في رحاب
العروبة أو القومية العربية، لينحدر فيما بعد المنطق المسيحي إلى البحث فقط
في “أزمة المسيحيين”، ولم يعد الاهتمام شاملاً الكيان والدولة، بل أصبح
مهتماً فقط بحصّته داخل الدولة.
كان مشروع رفيق الحريري خارج منطق تطييف السنّة، بينما سعد
أغرته لعبة الطوائف، فضيّق المساحة التي يتحرك فيها، إلى حد أنه بات
“يناضل” من أجل ادعاء أبوته للسنة، فغدا على غرار زعماء الطوائف الأخرى،
فضاق الأفق أمامه. هنا لا يلام الحريري وحده، بل أيضاً قاعدته الشعبية التي
جمحت بعد سلسلة الاحباطات إلى مطلب التشبه بسلوك الجماعات الأخرى، أي مطلب
زعيم حصري للطائفية السنّية، وحتكارهم له أو احتكار الخدمات التي يمكن له
تقديمها. فأصبح عالقاً في زاوية وحيدة، هي زاوية حماية المصالح السنّية
والتمترس خلفها. وهذه أيضاً أحالته إلى حال مشابهة لوضع المسيحيين، الذين
لم يوسعوا أفق توجهاتهم في الخروج من منطق “المسيحية” الشعبية، إلى رحاب
الوطنية.
مراضاة الآخرين
صحيح أن الحريري سيحقق إنجازاً
بتشكيل الحكومة، وهو يتمثّل بفوزه برئاستها، وبالتالي تأمين استمراريته في
الحكم لسنوات عديدة. وهذه أيضاً ستحتاج إلى تسويات مشابهة عليه إبرامها
مستقبلاً، لضمان تمديد فترة ولايته. لكن أيضاً إلى جانب الحريري، هناك
أطراف أخرى حققت الفوز، حزب الله الذي فرض شروطه، ومعه الطائفة التي
يمثّلها، والتيار الوطني الحّر ومعه الشريحة التي يمثّلها من المسيحيين.
في تلك المعادلة، يعود الحريري إلى رئاسة الحكومة، كطرف أضعف من الأطراف التي حققت انتصاراتها، أولاً لتحولّه إلى ممثل طائفة حصراً (يزاحمه فيها ممثلون آخرون). وهو خاض المفاوضات وفق هذه القاعدة. وثانياً لأن الإرتضاء بذلك، من شأنه إضعاف السنّة، وجعلهم الحلقة الأضعف في معادلة الطوائف. كما أن منطق الأكثريات والأقليات انعدم، بحيث أصبح الصراع الذي تخوضه الزعامات السنّية، محصوراً فيما بينها، حول عنوان وحيد، وهو من يربح أو يحظى بثقة القوى الآخرى، التي تسمح له بتبوء المنصب. وهذا جزء من صراع عام يدور في المنطقة ككل، حيث القوى السنّية تتصارع فيما بينها، على من يقود المنطقة، أو من تكون له الحظوة الأكبر في التأثير والتمثيل، استناداً على العلاقة بالقوى الأخرى. وبالتالي، فالإشكالية أصبحت في مكان آخر، داخل الجماعة السنّية، ومن يتفوق على الآخر فيها، ليعقد التوافق مع الآخرين، وهذه تعبّر عن أزمة عميقة اجتماعياً وسياسياً.
منير الربيع/ المدن