الحريري “يسلّم” الأسد اللاجئين السوريين.. مقابل ماذا؟
في القمّة الاقتصادية العربية ببيروت، كان موقف وزير الخارجية جبران باسيل واضحاً تجاه اللاجئين السوريين. الموقف ينسجم مع الخطط الروسية بمواجهة الطرح الأميركي. لم يتأخر المسؤولون اللبنانيون عن الخروج على اللاءات الأميركية الثلاث، التي وضعها ديفيد هيل، المتعلقة بسوريا، وبالأخص ملفّ اللاجئين. لبنان الرسمي يتمسّك بالمبادرة الروسية وينحاز إليها، والتي ترتكز على إعادتهم إلى مناطق وقف إطلاق النار، من دون توفير حدّ أدنى من مقومات العيش، على قاعدة: فلتتم إعادتهم، ومن ثم يتم البحث عن تأمين مساكن ومساعدات لهم. وطبعاً، بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات أمنية على حياتهم من التصفية أو الاعتقال أو التنكيل اليومي بهم، من قبل النظام، انتقاماً من ثورتهم عليه.
التحول المفصلي
يتوافق الحريري وباسيل معاً على السير بالطرح الروسي. رئيس الحكومة كان أبرز المراهنين على الخطّة الروسية التي أُجهضت أوروبياً وأميركياً، لكنه لا يزال يتمسّك بها. ووزير الخارجية يكاد يسابق موسكو في طرح ملف اللاجئين، والتطلّع إلى المشاركة في عمليات إعادة الإعمار. موقف باسيل خلال القمّة، استدعى ردّاً من وزير شؤون اللاجئين، في حكومة تصريف الأعمال حينها، معين المرعبي، الذي اعتبر أن الموقف لا يعبّر عن سياسة الدولة اللبنانية، ويمثّل خروجاً على الدستور وكل القوانين. سارع الحريري إلى نفي كلام المرعبي، والاتصال بباسيل مؤكداً أن كلام وزيره لا يمثّله. وهذا كان تحولاً مفصلياً في مواقف الحريري، وتؤشر إلى عمق التزامه بما يريده وزير الخارجية، خصوصاً بالملف السوري. وكأن الحريري يراهن على باسيل لتسيير أعماله اللبنانية والسورية معاً في ظل موقفه من النظام وموقف النظام تجاهه، لعلّه بتسليف باسيل والتسليم برؤيته ووجهة نظره، يعود عليه ببعض مما يطمح إلى تحقيقه، خصوصاً في مجال إعادة الإعمار في سوريا، وفي بعض “الأعمال” اللبنانية.
قبيل تشكيل الحكومة بساعة واحدة، كان الحريري يتحدّث في أحد
المؤتمرات بالسراي الحكومي، معلناً أن لا اعتمادات بالموازنة المقبلة لأي
تمويل يتعلق بأزمة النزوح السوري. وهذا مؤشر لافت، من قبل الحريري. ويوضح
بأن الرهان اللبناني، طوال السنوات الماضية، في الحصول على مساعدات
للمؤسسات اللبنانية والمجتمعات المضيفة للاجئين، من الدول المانحة، قد
تحوّل إلى الرهان على الكسب من فرصة إعادة اللاجئين وفتح طريق المشاركة في
إعادة إعمار سوريا.
التنسيق والفرز
بعد ساعة واحدة من هذا
الموقف، ولدت حكومة الحريري الثانية في عهد الرئيس ميشال عون، ليظهر بأن
رئيس تيار المستقبل تخلّى عن وزارة شؤون اللاجئين لصالح التيار الوطني
الحرّ، الذي اختار وزيراً موالياً لدمشق لتولّي هذه الوزارة. ولم تكد تمضي
24 ساعة على تولي صالح الغريب تلك الوزارة، حتى أطلق موقفاً، يتعلّق
بالتنسيق مع النظام السوري في ملف اللاجئين. ولم يكن هذا مفاجئاً. فوفقاً
لمصادر مطّلعة، فإن النظام السوري هو الذي طلب تسمية صالح الغريب وزيراً
لشؤون اللاجئين.
بلا شك، لا يمكن إعادة اللاجئين من دون التنسيق مع النظام،
لكن الاختلاف يبقى حول مضمون وآليات هذا التنسيق، الذي سيكون هذه المرّة
منسجماً تماماً مع سياسة النظام وشروطه. بمعنى أن “العودة” لن ترتكز على
توفير الضمانات والأمان للعائدين، بقدر ما ستكون الغاية منها تعزيز مبدأ
الفرز البشري والديموغرافي، الذي يريد النظام تكريسه على الجغرافيا السورية
بموجب القانون رقم 10. وبالتالي أي عودة للاجئين ستكون خاضعة لموافقة
النظام، وللوجهة التي يريدها، والتي لن تكن بالضرورة عودة إلى مناطق السكن
الأصلية.
ملف كامل الدسم
بتخلّي الحريري عن وزارة شؤون
اللاجئين، إيحاءان رمزيان، سياسي ومعنوي. السياسي، يعني أنه سلّم كامل
الملف لعهدة باسيل والموالين لدمشق، تعبيراً عن “النأي بنفسه” عن أي أمر
يخص الوضع السوري. ومعنوي، يُترجم بتخلّي الحريري (الذي يدّعي أنه أب
السنّة)، عن أكثر من مليون سنّي هجّروا من أراضيهم قسراً، من دون أي أفق
أمامهم.
ترك الحريري كل ما يتعلّق بسوريا والسوريين، من السياسة الخارجية إلى ملف اللاجئين. ووضع ملفّاً استراتيجياً كامل الدسم في يد جبران باسيل، الذي كانت له اليد الطولى في عملية تشكيل الحكومة، وتفصيلها، وتوزيع الحقائب فيها، وحتّى اختيار الأسماء، عندما وضع فيتوات على بعض المرشحين حتى من داخل تيار المستقبل.
لم تكد تمضي ساعات على انتهاء أعمال القمة الإقتصادية، حتّى شهدت مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال تحديداً، مواجهة هجمات من قبل “لبنانيين غاضبين” من الوجود السوري. بدا الأمر وكأنه ليس صدفة أو عرضياً، بل هو جزء من حملة واضحة لن تقف عند هذا الحدّ. سيكون هدفها تأليب المجتمع المضيف وخصوصاً السنّي، الذي مثّل حضناً في السنوات السابقة للاجئين، على اللاجئين، لتبرير إخراجهم سريعاً ومن دون أي خطّة واضحة. وعلى الأرجح، هذا النوع من الحملات سيزداد في الفترة المقبلة، وسينتقل من عرسال إلى غيرها. وما زاد من مبررات تكثيف الهجمة عليهم، هو بروز جهات تسعى إلى بناء مخيمات إسمنتية، على غرار المخيمات الفلسطينية، الأمر الذي يمثّل “فوبيا” لبنانية. وبلا شك، أن خطوة من هذا النوع ستسرّع أكثر عملية إخراج اللاجئين، من دون انتظار أي توافق دولي أو إقليمي.
يرتكز الحريري في موقفه المنسجم مع الروس والمسلّم لباسيل في كل ما يقول، بتعليل من نوع: أن لدى الروس خطّة جهنمية، تهدف إلى الإسراع في عملية إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، لإخراج إيران من سوريا، أو منعها من تحقيق أهدافها. ما يعني وجوب البدء بتقديم الدعم اللازم، من أجل تمويل إعادة الإعمار لبعض المدن الأساسية، بغية إعادة حوالى 7 ملايين سوري من مناطق الشتات. وتعتبر وجهة النظر هذه، أن عدم الدخول في الخطة الروسية لإعادة الإعمار، وبقاء اللاجئين خارج سوريا، وفق منطق الفرز الديموغرافي المذهبي، سيحقق الأهداف الإيرانية في تكريس الفرز السكاني، الذي عملت إيران على تكريسه. وتحاول موسكو إقناع الأوروبيين والعرب بهذا المقترح، وهم يميلون إلى ذلك، لكن ما يكّبل الشروع في الدخول بهذا الاتفاق هو الموقف الأميركي، الذي يرفض مبدأ إعادة الإعمار حالياً.
المدن