لا تصدّقوا السياسيين ولا تتفاءلوا كثيراً
كان واضحاً في مختلف التصريحات، التي تلت الاتفاق على تشكيل
الحكومة، وجود رابط بين هذا الحدث والأزمة الاقتصاديّة والنقديّة، وإن
تفاوتت نسبة التفاؤل ودرجة الواقعيّة فيها. فمن ناحية، حرص حاكم مصرف لبنان
مثلاً على انتقاء عباراته، بعناية ودقّة مصرفيّة، متحدّثاً عن الطلب على
الليرة منذ تشكيل الحكومة، بينما ذهب رئيس الجمهوريّة أبعد من ذلك، في
حديثه عن الأزمات التي “باتت وراءنا”، متوقّعاً تحسّن الوضع المالي وانخفاض
الفوائد قريباً.
الاقتصاد المدولر
من المنطقي توقّع
تداعيات إيجابيّة، محدودة الأثر، على المدى القصير، كنتيجة لانفراج سياسي
من عيار تشكيل الحكومة. لكنّ أسباب الأزمة وخلفيّاتها، تدل بوضوح إلى عدم
واقعيّة توقّع تجاوز الأزمة برمّتها، بفعل هذا الحدث. وإشكاليّة هذا النوع
من التفاؤل، تكمن في إعطاء الرأي العام الانطباع بأن الأزمة كانت أزمة ثقة
في السوق، بفعل تأخّر تشكيل الحكومة. وهو ما يبعد الأنظار عن المشاكل
البنيويّة، التي نحتاج للنظر فيها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
فأزمة ارتفاع الفوائد مثلاً، لم تبدأ مع أزمة تعقّد تشكيل الحكومة وبالتأكيد لن تنتهي بانتهائها. فمسار الارتفاع بدأ منذ بدايات 2016، كإنعكاس لبدايات ارتفاع الفوائد على الدولار، في الولايات المتحدة والعالم. وبوجود اقتصاد مدولر كالاقتصاد اللبناني، والاعتماد على تدفّقات الودائع من الخارج، لتعويض التفاوت الكبير بين الصادرات والواردات، والحاجة لتأمين العملة الصعبة في السوق، كان من الطبيعي أن ترتفع الفوائد في لبنان، للمنافسة والحفاظ على الودائع. ومع حفاظ الفوائد على معدّلاتها المرتفعة عالميّاً، لا يمكن توقّع انتفاء العوامل الضاغطة صعوداً على الفوائد محلّياً.
وبالإضافة إلى العوامل الخارجيّة، المتعلّقة بأزمة الفوائد،
فثمّة عوامل داخليّة، تكمن تحديداً في سياسات مصرف لبنان، المعتمدة منذ
سنوات عديدة. ففي مواجهة أزمة عجز ميزان المدفوعات، القائم منذ 2011، والذي
يختصر صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج، توجّهت سياسات مصرف
لبنان إلى رفع الفوائد والهندسات الاستثنائيّة، لاستقطاب التحويلات
الخارجيّة والودائع بالعملة الصعبة. وبينما يستمر العجز في ميزان
المدفوعات، لا يبدو أن مصرف لبنان سيعتمد خيارات مختلفة، خصوصاً أن ميزان
المدفوعات سجّل حتّى نهاية السنة الماضية عجزاً بـ4.8 مليار دولار، بينما
تراجعت احتياطاته بالعملة الصعبة بقيمة 2.3 مليار دولار.
التحويلات والعجز
وفي
كل الحالات، فمشكلة الفوائد لم تعد تشكّل سوى الجزء الأبسط من عوارض
الأزمة الماليّة القائمة اليوم. فالمأزق الفعلي أصبح يرتبط بمستقبل أزمة
التحويلات الخارجيّة وميزان المدفوعات، وهي أزمة مستمرّة منذ ثمانية سنوات.
ومع عدم وجود أي توجّه لمراجعة النموذج الاقتصادي القائم، الذي يعتمد على
نمو الودائع من هذه التحويلات، لتعويض العجز عن الإنتاج والتصدير، ومع
استمرار عجز ميزان المدفوعات، بفعل عوامل خارجيّة وداخليّة متعدّدة، لن
يغيّر تشكيل الحكومة أي شيء في المشهد.
أمّا الوجه الآخر للأزمة، فأصبح يرتبط بماليّة الدولة نفسها. فالعجز المالي بلغ خلال التسعة أشهر الأولى من العام الماضي مستوى الـ4.51 مليار دولار، وهو ما يعني أن العجز سيتجاوز مستوى الـ6 مليارات، لغاية نهاية السنة بهذا المعدّل، مقارنة بـ3.7 مليار دولار خلال السنة السابقة. وخطورة هذا العجز مع تنامي المديونيّة تكمن في تحوّله اليوم إلى مصدر إضافي من مصادر قلق مؤسسات التصنيف الدوليّة، والأسواق الماليّة، والمستثمرين حيال لبنان. وهو ما يجعله أحد عوامل تفاقم الأزمة نفسها. وبغياب أي توجّه جدّي معالجة هذا العجز تحديداً، لا يمكن الحديث عن طي صفحة الأزمة.
في الواقع، يمكن لتشكيل الحكومة، فعليّاً، أن يدفع ببعض المؤشّرات نحو التحسّن على المدى القصير، مثل وجود طلب على الليرة اللبنانيّة أو سندات الخزينة، بعد إعلان انتهاء أزمة التشكيل. وتتعلّق هذه المؤشّرات بوجود قرارات ماليّة سابقة، كانت مجمّدة لدى بعض الفئات، بانتظار إعلان تأليف الحكومة. لكنّ أي من هذه المؤشّرات لا يتعلّق بتحوّلات باتجاه الخروج جذريّاً من الأزمة الماليّة الموجودة، والتي ترتبط بمؤشّرات أكثر عمقاً.
علي نور/المدن