لا يمكن لحكومة يرأسها الحريري وتضم «القوات » و«الاشتراكي» بأنها حكومة «حزب الله»،
حاول البعض من موقعه المعارض الترويج لمقولة انّ الحكومة الراهنة هي حكومة «حزب الله»، ولكن لم يُكتب لهذا الترويج أن يفعل فعله لأنه مجرد اتهام سياسي لا يستند إلى وقائع فعلية وصادر عن أفراد وليس عن جبهة سياسية.
إستفاد هذا البعض من رفض الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تصنيف الحكومة بأنها «حكومة حزب الله» من أجل مواصلة الترويج في الاتجاه نفسه ومحاولة إحراج كل من يتقاطع مع نصرالله، فإذا أيّد كلامه يصبح في الموقع نفسه معه، وإذا لم يؤيده يصبح كمن يعترف بهذه النظرية. وبما انّ التقاطع في جوانب محددة ليس جريمة، بل الجريمة هي في الشيطنة بالمطلق وفي تشويه الوقائع والحقائق.
فهذا يعني أنّ الحكومة الوحيدة التي يمكن تصنيفها حكومة «حزب الله» منذ العام 2005 هي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية التي جاءت على أثر إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري من طريق استقالة الثلث من منزل العماد ميشال عون في الرابية، وفي اللحظة التي كان يهمّ فيها الحريري بالدخول الى البيت الأبيض ونشر القمصان السود واستبعاد «المستقبل» و«القوات اللبنانية» عنها، فيما الحزب من اختار رئيسها ولم تأت على أساس الإستشارات التي تمّت على وقع محاكاة الشارع وبعد تأجيل الرئيس ميشال سليمان لها تحقيقاً لأهدافها المنشودة، ولكن يسجّل لميقاتي أنه من موقعه الرئاسي لم يسمح بتمدد مفاعيل الإنقلاب المزدوج في دليل قاطع على محورية دور رئيس الحكومة حتى لو لم يكن يستند إلى كتلة نيابية وحالة شعبية على غرار الحريري.
فباستثناء هذه الحكومة، فإنّ كل الحكومات الأخرى شكلت انعكاساً وترجمة لقرار المساكنة الذي بدأ مع ولادة 14 آذار في العام 2005، وحتى في أصعب المحطات وأحلكها والتي شهدت اغتيالات متتالية واستخدم فيها «حزب الله» سلاحه في الداخل وخروجه للقتال في سوريا لم تعلن قوى 14 آذار القطيعة والطلاق مع الحزب من خلال التموضع في المعارضة تحت عنوان إمّا تسليم سلاحه وإمّا المعارضة والقطيعة والطلاق، وقد يكون موقفها في غير محله، ولكن هذه هي الوقائع في نهاية المطاف.
ولعلّ مجرد المقارنة بين «حزب الله» في نسخته بين محطتي حرب تموز 2006 واغتيال الشهيد محمد شطح، والحزب في نسخته الراهنة مع التسوية الرئاسية، وربما قبلها بقليل، تظهر وكأنه خرّيج مدرسة «البوزانسون» مقارنة مع السابق. وبالتالي، كان الأجدر بمن يطالب اليوم بعدم المساكنة ان يرفع الصوت قبل «اتفاق الدوحة» وبعده، وتذكيراً بأنّ «القوات اللبنانية» كانت رفضت الدخول في حكومة الرئيس تمام سلام من منطلق انّ الحزب الذي اتخذ قرار إسقاط المساكنة عليه ان يتحمل مسؤولية السلطة منفرداً، ولكن بعد ان ظلت وحيدة في المعارضة عادت إلى السلطة من باب التسوية التي كانت من أركانها.
ويصعب الكلام عن معارضة جدية إذا لم تكن عابرة للطوائف، والمرحلة الراهنة تختلف عن الحقبة الممتدة من العام 2000 إلى العام 2005 إذ حتى مسيحياً «التيار الوطني الحر» في السلطة لا المعارضة، ولا استعداد أساساً لدى «المستقبل» او «الإشتراكي» للخروج من السلطة، ما يعني انه ليس فقط لن يكتب للمعارضة النجاح، والكلام هنا عن معارضة وطنية وليس مطلبية، بل قد تكون معارضة من هذا النوع محفوفة بالمخاطر، فيما قدرتها على التغيير ستكون معدومة.
والحل الأنسب يكمن في تنسيق الخطوات بين القوى الأساسية في الشأن السيادي، وان تكون الشخصيات المستقلة في حالة تكاملية مع القوى الأساسية وربما على يمينها، ولكن ليس في مواجهتها لأنه عدا عن أنها لن تبدّل شيئاً في المشهد، على رغم انّ من حقها التموضع في المكان الذي تراه مناسباً، بل انّ سياسة من هذا النوع تخدم «حزب الله»، فيما موضوعياً يجب ان تكون القوى الأقل تأثيراً في تكامل مع القوى الأكثر تأثيراً، وليس العكس، فضلاً عن انّ وظيفتها الأساسية ليس قيادة حركة معينة كون حجمها لا يسمح لها بذلك، بل محاولة التأثير في صناعة القرار واتجاهاته، وخلاف ذلك يعني أنها لا تؤمن بالديموقراطية التي أعطت أصواتها لهذا الاتجاه السياسي وحَجبته عن الاتجاه المزايد.
والتوازن الموجود اليوم في البلد والسلطة هو أفضل توازن منذ العام 2005، ومن أسبابه انّ «حزب الله» لاعتبارات ذاتية تتعلق بالمشهد الإقليمي يريد التبريد في لبنان، وبالتالي يجب الاستفادة من هذا الوضع تعزيزاً للاستقرار والانتظام المؤسساتي وسياسة «النأي بالنفس» وترحيل سلاح الحزب الى الحلّ المنتظر دولياً مع إيران، خصوصاً أن لا قدرة لنزع سلاحه بالقوة، كما لا قدرة للحزب على حكم لبنان بالقوة كما فعل نظام الأسد، ولكن كل ذلك شرطه الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي لا يستخدم فيه سلاحه في اتجاه الخارج والداخل ويلتزم سياسة الحكومة، ولكن في اللحظة التي يقرر فيها إسقاط هذا «الستاتيكو» سيواجه بسياسة أخرى.
ولا بأس، ولو سريعاً، من استعراض البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 وتحديداً لناحية طريقة مقاربتها لموضوع المقاومة:
فحكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى اعتبرت «أنّ المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن الحق الوطني للشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته في مواجهة الاعتداءات والتهديدات والأطماع الإسرائيلية، والعمل على استكمال تحرير الأرض اللبنانية».
فيما حكومة السنيورة الثانية شددت على «حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر المحتلة، والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء والتمسّك بحقّه في مياهه، وذلك بكافة الوسائل المشروعة والمتاحة».
أمّا حكومة الحريري الأولى فلم يختلف بيانها الوزاري عن حكومة السنيورة الثانية لناحية «حق لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته، في تحرير أو استرجاع (…)»، وكذلك الأمر بالنسبة لحكومة ميقاتي الثانية لجهة تمسكها «بحق لبنان، شعباً وجيشاً ومقاومة (…)».
ولم تسقط «المعادلة الثلاثية» سوى مع حكومة الرئيس تمام سلام آخر حكومات عهد سليمان نظراً الى حاجة الحزب إلى المساكنة وغطاء «المستقبل» تحديداً، فتنازل لمصلحة الجملة التي استخدمت نفسها في حكومتي الحريري الثانية والثالثة في عهد الرئيس ميشال عون، وهي «مع التأكيد على الحق للمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة».
ويبقى انه لا يمكن الكلام عن حكومة يرأسها الحريري وتضم «القوات اللبنانية» و«الاشتراكي» بأنها حكومة «حزب الله»، ومن يقول هذا الكلام يتحامل على هذا الثلاثي ويحرِّض عليه، فيما أي توازن فعلي مع الحزب لا يمكن تأمينه سوى عبر هذه الأحزاب الثلاثة، فضلاً عن أنه من الخطأ التعامل مع عون وتياره كما لو انه ما زال رأس حربة في مشروع «حزب الله»، فيما من الضروري التمييز بين الحالة العونية اليوم وفي الأمس.
ولا بل في خلاصة المشهد الخارجي بفِعل المواجهة الأميركية غير المسبوقة مع طهران، والمشهد الداخلي في ظل التمايز العوني مع الحزب والتقاطع الحزبي الثلاثي، يمكن القول وفي راحة ضمير انّ 14 آذار اليوم في أفضل وضع منذ قيامها.
الجمهورية