أزمة عميقة ومعقّدة بين “التيار الوطني الحر” و”المستقبل”
إنشغلت الأوساط السياسية اللبنانية
برصد المدى الذي سيذهب إليه الاشتباك بين رئيس الحكومة سعد الحريري ومعه
تيار “المستقبل” وبين رئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجية جبران باسيل
وفريقه، وانعكاس ذلك على وضع الحكومة التي تتعرض انطلاقتها للعثرة تلو
الأخرى بسبب بروز الخلافات داخلها على ملفات عدة، تؤثر على إمكانية إنجازها
خطوات مطلوبة منها بسرعة في شأن تصحيح الوضعين الاقتصادي والمالي.
وقال مصدر سياسي لـ”الحياة” إن خروج الخلاف
إلى العلن بين فريقي التسوية الرئاسية والحكومية يطرح علامات استفهام عما
إذا كانت الحكومة التي تطلب أمر تشكيلها ضغوطا متبادلة ومناورات وجهودا
استمرت 8 أشهر وأسبوع، شاخت في شكل مبكر جدا قياسا إلى عمرها (6 أسابيع منذ
التأليف و4 أسابيع منذ نيلها ثقة البرلمان).
واهتمت الأوساط السياسية التي تابعت وقائع الحملات المتبادلة بالاستفسار عن السبب الجوهري وراء الهجوم المفاجئ لباسيل على الحريري، هل هو الخلاف على ملف النازحين، أم على ملف الكهرباء والبواخر، أم على ملف مكافحة الفساد، أم على ملف التعيينات الإدارية؟ وما هو “بيت القصيد” من بينها؟
ومع صمت رئيس الحكومة الموجود في باريس من أجل فحوص طبية، وشح التسريبات لدى أوساطه، فإن قراءات الأوساط هذه تشعبت وتعددت على رغم إقرارها بأن ما جرى هو مؤشر إلى أزمة عميقة ومعقدة في العلاقة التي اتسمت بالتحالف والتعاون لسنتين، وباتت ملتبسة بعد الانتخابات، بين “التيار الحر” وحلفائه وبين تيار “المستقبل” وحلفائه. وتوزعت القراءات على اتجاهات عدة:
1- توقعت مصادر وزارية لـ”الحياة” أن يتم تدارك التأزم الحاصل عبر اتصالات حثيثة يفترض أن تكون أجريت بعيدا من الأضواء، ستتكثف فور عودة الحريري من باريس تمهيدا لعقد جلسة مجلس الوزراء هذا الأسبوع. وتشير هذه المصادر إلى أن مفهوم الحريري الذي سبق أن أعلن عنه، لإدارة المرحلة المقبلة هو التركيز على أن تنجز الحكومة الأعمال المطلوبة منها، وعدم إضاعة الوقت بالسجالات والمناكفات. فقناعته هي أن إنقاذ الوضع الاقتصادي بتطبيق إصلاحات “سيدر”. والإفادة من استثماراته له الأولوية على غيره من المسائل السياسية على أهميتها. وبالتالي فإن الحريري الذي يعتبر أن مصلحة عهد الرئيس ميشال عون في الإنجاز، سيراهن مرة أخرى على التفاهم مع الأخير على تسوية الخلاف الحاصل مع باسيل، قد يشمل التفاهم على حلول وسط في ملف ما، وعلى إرضاء فريق رئيس الجمهورية في ملف آخر، وعلى اعتماد الوسائل النظامية القانونية في بت ملف آخر في مجلس الوزراء … كما أن القوى الرئيسة في الحكومة ليست في أجواء التأزيم، خصوصا أن أمام لبنان استحقاقات خارجية، أبرزها زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، خلال هذا الأسبوع وزيارة الرئيس عون إلى موسكو مطلع الأسبوع المقبل. وبعض ملفات الخلاف مثل النازحين متصلة بهذه الاستحقاقات الخارجية. وهذه القراءة تفترض أن التسوية الرئاسية ستتيح تجاوز الخلاف الأخير.
2- أن الحريري لم يعد قادرا على احتمال تقديم
المزيد من التنازلات التي تظللها التسوية الرئاسية، لا أمام جمهوره ولا في
العلاقة مع حلفائه، ولا بالنظر إلى الانحياز من قبل باسيل نحو خيارات
تعاكس سياسات الدول التي تقدم الدعم للبنان، وتطالبه بالتزام سياسة النأي
بالنفس. وفي رأي مصادر تدور في فلك الحريرية السياسية أن الوزير باسيل
استمرأ التنازلات التي سبق للحريري أن قدمها تحت شعار التضحية لمصلحة البلد
و”أم الصبي”، ويسعى إلى فرض أمور على رئيس الحكومة في الملفات التي
تناولها في خطابه في 14 آذار، وتعتقد أن الحريري بات يرى أنها تفوق مقدرته
على الاحتمال. ويقول أحد السياسيين المخضرمين، أن فريق رئيس الجمهورية
يتصرف، بعد الانتخابات انطلاقا من حصوله على أكبر كتلة نيابية مسيحية، على
أنه الآمر الناهي في السلطة التنفيذية، تحت عنوان “الرئيس القوي”، متجاهلا
صلاحيات رئيس الحكومة ومجلس الوزراء مجتمعا، ويريد إجبار الحريري على
مسايرته بتأمين الأكثرية للخيارات التي يطرحها باسيل في إدارة شؤون الدولة
وعلاقات لبنان الخارجية. وهذا ما جعل سياسيين كثر منهم رؤساء الحكومة
السابقين ينبهون إلى التزام اتفاق الطائف وعدم تجويف الدستور بالممارسة.
ولا يستبعد بعض المتابعين في هذا السياق، أن
يكون سفر الحريري إلى باريس، على رغم الإعلان عن إجرائه فحوصا طبية، مناسبة
للابتعاد تدليلا على غضبه وانزعاجه من الضغوط التي يتعرض لها من فريق
“التيار الحر”. وترى هذه المصادر أن ما جاء في مقدمة نشرة تلفزيون
“المستقبل” أول من أمس من انتقاد لخطاب باسيل، لم يأت من دون علم الحريري.
ويرى أصحاب هذه القراءة أن أمام رئيس الحكومة أن يلجأ إلى إبقاء القضايا
السياسية والخارجية الكبرى المختلف عليها عالقة، من دون التسليم بوجهة
النظر الأخرى في شأنها، وأن يطرح المسائل الداخلية (الكهرباء والتعيينات
إلخ…) على التصويت في مجلس الوزراء تجنبا لأي تسليم من قبله بإفراط باسيل
في الاستفراد بمواقع النفوذ، أو الاستقواء بانصياع وزراء “المستقبل”
لمطالبه، من أجل فرضها على القوى الأخرى الموجودة على طاولة مجلس الوزراء.
فهناك قوى أخرى حتى من الحلفاء المفترضين لـ”التيار الحر” لا توافقه كل
توجهاته، منها ملف الكهرباء على سبيل المثال. وهذا يعني التفاهم “على
القطعة”، في محاولة لتصحيح التوازن المكسور داخل السلطة، لأن كل الفرقاء
بحاجة إلى بقاء الحريري في الرئاسة الثالثة كونه المظلة المقبولة من الخارج
لتنفيذ قرارات “سيدر”.
3- تذهب مصادر سياسية بارزة، تراقب مجريات العلاقة بين أركان السلطة في لبنان إلى درجة الاعتقاد بأن تلويح باسيل بـ”لا حكومة” إذا لم يؤخذ بوجهة نظره حيال القضايا الخلافية، يعبّر عن خيار دفين لدى فريقه، هو التخلص من رئاسة الحريري للحكومة. وتضيف هذه المصادر: قد لا يكون حان وقت هذا الخيار، لكنه موجود في حسابات باسيل وحلفائه ربما، وسبق أن حذر منه بعض الأوساط كاحتمال بعيد المدى، في إطار الصراع على السلطة بكل أبعاده المحلية والخارجية. وترصد هذه المصادر الحملة على الحريرية السياسية على أنها جهد حثيث لإبقاء هذا الاحتمال قائما عندما تحين ظروفه، ويقضي باستنزاف الحريري إلى حينها. وتعتبر أن ما بدأ باستهداف رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة ليس إلا محاولة لإسقاط الشرعية السياسية السنية للأخير، ولتهشيم الرمزية السياسية السنية للحريري من ورائها، وهذا لا يتم من دون هدف ينوي أصحابه تحقيقه على مراحل. كما تخشى المصادر إياها من أن يشارك “حزب الله” “التيار الحر” هذا الخيار لأسباب إقليمية، وأن يتم تجاوز الآثار الاقتصادية السيئة لإحراج الحريري وإخراجه بتحميله مسؤولية، نظرا لارتباط مشروع النهوض الاقتصادي بوجوده، عبر تحميله مسؤولية أي تدهور يحصل، بدليل الحملة عليه وعلى السنيورة. وتسأل المصادر عما إذا كان يجب على رئيس الحكومة أن يستبق أي محاولة من هذا النوع فيخرج هو بقرار منه بدلا من قرار الآخرين، إذا صح أن هذه نيتهم؟
لكن المصادر إياها تتخوف من أن يؤدي كل ذلك إلى ارتفاع تدريجي لمنسوب الشعور السني بالغبن والاستهداف، بحيث ينمو التطرف السني في البلد، فينعكس على العلاقة السنية – الشيعية، ويقود إلى حال من اللااستقرار، في ظل ما تشهده المنطقة من ظواهر، وحروب متمادية، خلافا للاعتقاد بأن هذه الحروب، لا سيما في سورية، إلى نهاية.