ما يجري في لبنان،تقديم خدمات مجانية للنظام السوري، بموازاة الخطاب الشعبوي
عاش لبنان، طوال تاريخه الحديث، على الرافد الاقتصادي والمالي العربي. بل ويمكن القول أن ازدهار لبنان اقتصادياً، ما قبل الحرب الأهلية، قام على نكبات العرب.
المنفعة عكس الخطاب
راهناً، يعيش لبنان منذ
اندلاع الربيع العربي، وتحديداً مع الثورة السورية، نوعاً من الاستقرار
بفضل مظلّة دولية حريصة على توفير الأمن وثبات الحال، لحماية اللاجئين
السوريين، مع الحرص الدائم على عدم وقوع أي اضطراب، منعاً لتدفق اللاجئين
إلى أوروبا والغرب. وقد تكون المنفعة الغربية من إبقاء الوضع اللبناني
مستقراً، فيه نوع من الانتهازية والنفاق السياسي، أو هو عبارة عن سياسة
خبيثة وفق ما يراها بعض اللبنانيين. لكنها واقعياً، تمثّل أيضاً مصلحة
لبنانية في جوانب مختلفة، مالية واقتصادية، وأمنية. وهذه معادلة واقعية
وحقيقية تعاكس اللغة الشعبوية الرائجة، والتي يستخدمها بعض لبنان الرسمي في
مواجهة اللاجئين السوريين.
طوال السنوات الفائتة، ورغم الجمود الاقتصادي وتراجعه في كل
المنطقة العربية، عاش لبنان على الكم الهائل من المساعدات الدولية ،التي
قدّمت له وللاجئين السوريين، واستفاد منها على أكثر من وجه ونشاط. نال
لبنان أموالاً طائلة تتصل مباشرة بملف اللجوء. ولطالما رفع المسؤولون
اللبنانيون الصوت عالياً ضد اللجوء، وبأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل
أعبائه، ولا بد للمجتمع الدولي والدول المانحة من تقديم المزيد من
المساعدات. وعلى هذا النحو، شكّل ملف اللاجئين مادة للابتزاز من قبل لبنان
هذه المرة، وموضوعاً لبازار مفتوح بين لبنان والمجتمع الدولي. وهكذا، شهدنا
طوال الوقت خطاباً سياسياً شعبوياً وتعبوياً، من قبل بعض اللبنانيين
المستفيدين من اللاجئين بالذات. وهذا هو “الإبداع” اللبناني الذي يعرف
الاستفادة القصوى من القضية مادياً ويتفنن بالتصويب عليها سياسياً.. كمن
يشرب من البئر ويرمي الحجر فيه.
من “النكبة” إلى حرب لبنان
ما
يعيشه لبنان اليوم، هو شكل جديد مما عاشه سابقاً مع قضية اللجوء
الفلسطيني، فالازدهار اللبناني في حقبة الخمسينيات، كان إلى حد بعيد نتاجاً
للنكبة الفلسطينية وتداعياتها العربية. مطار بيروت توسع وازدهر، بعد إقفال
مطار اللد. ومرفأ بيروت تم توسيعه وبناء أربعة أحواض جديدة فيه، بعد إقفال
مرفأي حيفا ويافا. طرق الترانزيت البرية نحو الدواخل العربية صارت تنطلق
حصراً من لبنان. كما استفاد لبنان من “الثورات” أو الانقلابات العسكرية
وسياسات التأميم في الدول العربية، ومن تأزم علاقات تلك الدول مع الغرب
خصوصاً، فوفدت إليه الرساميل العربية الكبيرة، من سوريا والعراق ومصر،
خصوصاً وأن البنية المصرفية اللبنانية ونظامه الاقتصادي، الرأسمالي والحر،
وقانون “السرية المصرفية” لديه، كان بمثابة ملجأ آمن وجاذب لهذه الرساميل
أولاً، ثم مركزاً مالياً لفائض البترودولار.
في زمن الحرب ومع تمركز منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان،
تلقى الفلسطينيون (واللبنانيون) أموالاً طائلة ساهمت في الحفاظ على الدورة
الاقتصادية، إضافة إلى ما نسميه بـ”اقتصاد الحرب” (تمويلها السخي المتعدد
المصادر). وحتى ما بعد الحرب، بقي لبنان يعيش على الاستفادة من مشاكل
الآخرين، ليس آخرها الأزمة السورية، التي تلقى بموجبها لبنان عشرات مليارات
الدولارات كمساعدات للاجئين. كما استثمر في وجودهم، لمجانبة أي اهتزازات
أمنية أو سياسية أو اقتصادية.
اليد العاملة الرخيصة
لعب
الفلسطينيون دوراً مباشراً في نهضة الاقتصاد اللبناني، وسعى الموارنة في
لبنان إلى استقطاب اللاجئين إليه. وكان الهدف هو استفادة البرجوازية
اللبنانية من اليد العاملة الفلسطينية في القطاعات الاقتصادية، فجرى
استخدامهم برواتب منخفضة، وبلا أي ضمانات أو تأمينات، تستلزم فرض ضرائب على
أصحاب رؤوس الأموال. واليوم، يكرر لبنان التجربة مع اللاجئين السوريين عبر
الاستفادة الاقتصادية، وفي الناتج العام المحلي، من المساعدات المقدّمة
لهم. لكنه لا يتوانى عن فتح معارك شعبوية وسياسية ضد هؤلاء اللاجئين، مع
معرفة مسبقة بأن هذا الصراخ لن يؤدي إلى أي نتيجة، سوى النفخ في الخطاب
التحريضي، ربما للمزيد من ابتزاز المجتمع الدولي، ورفع أرقام المساعدات
المالية.
ما يجري في لبنان، هو فقط تقديم خدمات مجانية للنظام السوري،
بموازاة الخطاب الشعبوي. فالجميع لديه مصلحة في بقاء اليد العاملة السورية
في لبنان، ليس في القطاع الزراعي والعقاري وحسب، بل في القطاع الخدماتي
والصناعي. مصلحة الرأسمال اللبناني تتجلى ببقاء حوالى 150 ألف سوري عامل
على الأقل، في مختلف القطاعات. ولا ننسى أن الاقتصاد اللبناني عندما كان
مزدهراً ونشطاً ما بين عام 1992 و2005، كان يستوعب عن حاجة ماسة حوالى 850
ألف عامل سوري، خصوصاً في قطاع البناء. وهذا ما يؤكده رأسماليون وخبراء
اقتصاديون. لذا، المواقف التحريضية الآن، لا تهدف إلا تسليف النظام السوري
مواقف سياسية، طمعاً ببعض المكاسب من قبل النظام، علماً أن النظام لن يكون
قادراً على تسديد الثمن أو منح تلك المكاسب.
المشاكل الحقيقية
الغاية
من الحملات المفتعلة ضد اللاجئين ومن شعارات إعادتهم، “السريعة”،
“الفورية” أو “الآمنة” أو “الطوعية”، ليست إلا لإبقاء الشعار مشدوداً
باتجاهات خاطئة. وهذا يأتي في إطار المنهج اللبناني المعتاد، في الإضاءة
على مشاكل هامشية، لا علاقة لها بالمشاكل الأساسية والفعلية، والتركيز على
الانهيار الاقتصادي، وتحميل اللاجئين المسؤولية، يهدف إلى إبعاد النظر عن
المشاكل الاجتماعية الضخمة في قطاعات أساسية، من التعليم إلى الفقر،
والصحة، وحوادث العنف والإنتحار والملفات القضائية والسجون، ناهيك عن
التلوث والانهيارات في البنى التحتية، وصولاً إلى ملفات الضمان الاجتماعي
والقطاع العقاري وأزمة الإسكان، والتي كلها نتيجة تقاسم سياسي واضح.
يتخوف الحكم اللبناني، في حال خفوت الكلام عن خطر الانهيار
الإقتصادي، وعن اللاجئين وعن مكافحة الفساد، سينتبه اللبنانيون للهموم
الأخرى، أي مشاكلهم الفعلية، المذكورة آنفاً. وفي ظلّ الصراع على الاستحواذ
على الدولة اللبنانية ومقدراتها، والتي أنجزها حزب الله بالتعاون مع
التيار الوطني الحرّ، يغلّب الرئيس سعد الحريري الجانب الاقتصادي، في
المرحلة المقبلة، لإدارة الدولة، بعيداً عن الشعارات السياسية. ولذلك، لا
يتوانى عن تبني تلك السياسات الساعية للحصول على المساعدات والأموال، باسم
إنقاذ الاقتصاد من الإنهيار.
النظام و”الحل السياسي”
لمرتين
متتاليتين، أطلق الرئيس سعد الحريري موقفاً أن لبنان لن يدرج في موازنته
تقديم أي مساعدات للاجئين السوريين. وفي هذا الكلام نفحة شعبوية أيضاً،
تنطوي على مغالطات أساسية. فلم يكن للبنان موازنة مساعدات في السنوات
السابقة أساساً. وحتى الأموال والمساعدات التي حصل عليها اللاجئون السوريون
هي كلها مساعدات خارجية. وما دخل إلى لبنان بحجة السوريين، هو أضعاف أضعاف
الكلفة التي تكبدها لبنان. كلفة لا توازي فتات الإنفاق العام على
اللاجئين.
وبعيداً من كل هذه التفاصيل اللبنانية، المستخدمة في سياقات سياسية وشعبوية، تبلّغ المسؤولون اللبنانيون من أكثر من جهة دولية، أن النظام السوري لا يرغب بإعادة اللاجئين السوريين حالياً، على الأقل ليس قبل تبلور “الحل السياسي”، ليس بالمفهوم الأميركي – الأوروبي بالضرورة. كما لا يمكن إعادة بعضهم إلى أراضيهم الأصلية، ليس قبل إنتخابات العام 2021 على الأقل. والنظام يعمل في هذا المجال على أكثر من مستوى وغاية، أولاً التغيير الديمغرافي، الذي يطمح من خلاله لاستتباب وضعه طائفياً ومذهبياً وسياسياً، فهو لا يريد عودة اللاجئين منعاً للغلبة العددية المعارضة. النظام سيسمح بالعودة بقدر ما يضمن بقاء قبضته محكمة، إذ لم يعد قادراً على الحكم بقبضة حديد ونار على المعارضين. كما أنه يسعى لاستثمار “العودة” على الطريقة اللبنانية، أي ابتزاز المجتمع الدولي والعربي للاستحواذ على مساعدات مالية ضخمة تنقذ اقتصاده، تحت عنوان “إعادة الإعمار”..إلخ. لذلك لا يميل النظام إلى إعادة اللاجئين حتى الآن. فإذا ما عاد اللاجئون بكثافة إلى بعض المناطق، لن يكون هناك قدرة على تأمين ظروف حياتهم الطبيعية، وهذه ستزيد من أعباء النظام، الذي ليس لديه قدرة التعامل مع هذا الواقع.
المدن