هل يُعيد التاريخ نفسه بين لبنان وأميركا؟
فجأة، انحرفت الأنظار اللبنانية، على مدى الأسبوع الفائت عن المسار الداخلي: توظيف عشوائي، هدر مالي بمليارات الليرات اللبنانية، فساد ينخر كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وسائر سلطاتها، من دون استثناء يذكر، توقيفات، إحالات الى سلطات الرقابة والقضاء، وحتى القضاء نفسه لم يسلم من «اللوثة»، إلى مسار خارجي: ماذا عن العقوبات الأميركية الجديدة، ماذا عن حصار «حزب الله» ومعه الحصار الضار، على لبنان ككل، ماذا عن ترسيم الحدود البحرية، والمنطقة الاقتصادية الخالصة بين لبنان وإسرائيل وقبرص! وما هي قدرة لبنان، البلد المنهك، الذي يحتاج إلى المساعدات الدولية، ومنها الأميركية، لقلب صفحة الصعوبات الداخلية والإقليمية، لا سيما مسألة إعادة النازحين السوريين، إلى بلادهم.. وتكرّ سبحة «الماذا؟» إلى شؤون وشجون كثيرة.
مردّ هذا الانحراف «المؤقت»، والدائم خارج دائرة المتابعة اليومية، الطافية على السطح، هو «الزيارة المديدة» لناظر الخارجية الأميركية مايك بومبيو في عهد الرئيس دونالد ترامب، إلى بيروت، من ضمن جولة، بدأت في الكويت، وانتهت بلبنان، مروراً بإسرائيل.
قد تعود، بدءاً من هذا الأسبوع الطالع، بعض الملفات الداخلية إلى الواجهة، مع ان الشق الدولي مع سفر الرئيس ميشال عون إلى موسكو غداً، حيث سيمكث يومين في روسيا الاتحادية، سيبقى مستمراً.. ولكن الحدث الأميركي، سيتحوّل إلى نقطة جذب للعمليات السياسية في بلد مثل لبنان، تمثل خصائصه المكانية أبرز عامل فهم لمسار التحولات السياسية في الإقليم، وربما على صعيد دول المركز ككل، فضلاً عن أطرافه الإقليمية، بدوله «الرخوة» (ولبنان بلد رخو، مثل سوريا والأردن، والعراق وسائر الدول العربية) ودوله الصلبة (مثل إسرائيل، تركيا، إيران..).
تتجاوز خصائص المكان، في بلد مثل لبنان، النظرة التقليدية لموقع البلد، وتوسطه لسواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية، والممتدة من الاسكندرونة شمالاً حتى بور سعيد جنوباً، لجهة التجارة والمواصلات، وربط دول الشرق الأوسط بحوض المتوسط ومنه إلى العالم الخارجي، فضلاً عن النظر إلى مرفأ بيروت كواسطة اتصال بين تجارة الأردن والعراق والسعودية والكويت وبلدان الخليج العربي وإيران والأسواق الخارجية في أوروبا وأميركا وافريقيا، إلى ما يُمكن وصفه بخصائص أخرى للمكان اللبناني، يُمكن وضعها في سياق جيوبوليتيكي، لفهم التحوّل السياسي في الصراعات الدولية، بما في ذلك التحوّل في التوجه السياسي الأميركي تجاه لبنان.. فالمسألة، تتعدّى مفهوم هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، لجهة النظر إلى الجيوبوليتيكا كمصطلح لوصف المنافسات الدولية في دهاليز السياسة العالمية، بل بإضافة «الجيو – ايكونوميكس» إلى الجيوبوليتيكا، في إشارة إلى تقدّم الارتباطات الاقتصادية إلى موقع الصدارة في ظل العولمة وما بعدها..
في مهمة بومبيو في بيروت في 22 و23 آذار 2019 تطوّر مفهوم أميركي جديد للجغرافيا السياسية متفاعل مع التاريخ، ومتجاوز لشبهة الانحياز القومي، وقدمه في سياق منطقي، فتقييم الأمكنة يأتي من زاوية ضرورات الأمن المتعلقة بالولايات المتحدة، فالرقع الجغرافية، تصبح كأنها «سلعاً أمنية»..
وهذه النظرة الجديدة تتطابق مع نزوع الدولة الأكبر والأقوى في العالم لإضافة لبنان كجغرافيا إلى هيمنتها الأحادية..
تبرز، في خصائص المكان اللبناني، الترابطية الجغرافية مع دولة اسرائيل، التي تشكّل بأمنها ومصالحها وارتباطاتها بالولايات المتحدة الأميركية، حجر الزاوية في صنع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، والترابطية مع سوريا التي تتواجد على أراضيها دولتان أو أكثر من دول المركز (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، وفرنسا) ودولتان أو أكثر إقليميتان (تركيا وإيران وقطر واسرائيل).
ففي لبنان، على مساحة واسعة، تتواجد قوة حزب الله، الشعبية والمقاومة، التي واجهت على مدى ما ينيف عن ثلاثة عقود الأطماع والاحتلالات الإسرائيلية لأجزاء من لبنان من بينها الجنوب والبقاع الغربي، فضلاً عن التدخل العسكري المباشر في سوريا لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، بالتنسيق مع دولة إقليمية هي إيران، ودولية هي روسيا فلاديمير بوتين..
هنا «المكان اللبناني» الراهن يصبح جيوبوليتيكياً، «فحزب الله» أو «المقاومة اللبنانية» (ولو كانت إسلامية) لها تأثير على قرار الدولة اللبنانية، عبر المشاركة في الحكومة..
إن «التدخل الجيوبوليتيكي» الأميركي الجديد في لبنان يفترض اختبار حلقة جديدة غير مسبوقة، تتمثل في كيفية «فرض تكيّف» في المكان اللبناني، بخصائصه الجغرافية والحدودية، وثرواته الدفينة (النفط والغاز) وثروته البشرية والمصرفية، مع طموحات الهيمنة الأميركية الأحادية، عبر صفقة القرن على النظام الإقليمي – الشرق أوسطي..
وهذا الاختبار في الدورة الحالية للسياسات الأميركية، يختبر نموذجه في الصراع الاقتصادي، والعقائدي مع إيران..
تمخضت الحرب العالمية الثانية عن قيام هيئة الأمم المتحدة عام 1945، ايذاناً ببداية الهيمنة الأميركية، التي واجهت دولياً، نظام الحرب الباردة، والبديل السياسي – الايديولوجي الذي طرح لاحقا من قبل الاتحاد السوفياتي (السابق)، وصولاً إلى تفكك النظام العالمي الجديد، الذي بدأ فترة انتقال من عام 1989، إلى اليوم.
وتسببت نزعة الهيمنة الأميركية بجملة من المصائب والويلات على دول المنطقة، ومن بينها لبنان.. من زاوية خصائص المكان اللبنانية ودورها في رسم السياسات والتحولات:
1 – إنزال قوات مارينز أميركية على الساحل اللبناني في 15 تموز 1958، وبرز على مسرح الدبلوماسية الأميركية آنذاك وزير الخارجية الأميركي روبرت مورفي، والذي انتهى بتسوية أبعدت كميل شمعون عن الرئاسة، وفتحت الباب إلى انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية (وكان حينها قائداً للجيش اللبناني).
2 – غزو إسرائيل للبنان عام 1982، والذي سبقته حركة دبلوماسية مكوكية للموفد الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب، على خلفية أزمة الصواريخ الروسية – السورية في البقاع.. والتي انتهت بمجيء المارينز إلى بيروت، من ضمن القوات المتعددة الجنسيات لضمان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وكان وزير الخارجية آنذاك الجنرال الكسندر هيغ.
وفي بيئة العدوان الإسرائيلي والتدخل الأميركي العسكري على شواطئ الأوزاعي، نشأ حزب الله اللبناني كقوة عسكرية، استذكره الوزير بومبيو، وهو يتحدث في مؤتمر صحفي، إلى جانب وزير الخارجية جبران باسيل في قصر بسترس، بأنه قتل العشرات من أفراد «المارينز» في مطار بيروت عام 1983 وهم (مشاة البحرية الأميركية).
3- هل يُمكن إدراج ما يُمكن وصفه «بالتدخل الأميركي – المتحوّل» في لبنان مع مجيء بومبيو، الذي غادر أمس الأوّل السبت، في سياق وصفيات تاريخية، للتدخل الأميركي المباشر، في صناعة «جيوبوليتيكا أميركية» على أرض لبنانية، تتجاذبها تيارات دولية أخرى..
الإجابة العفوية الأولى: نعم. فمن يقرأ مواقف بومبيو يستنتج طبيعة التحوُّل الرامي إلى استعادة هيمنة أميركية كاملة على المقدرات اللبنانية.. فالوزير الأميركي يعلن بصفاقة ووقاحة واضحتين: «ستواصل الولايات المتحدة استخدام جميع الوسائل السلمية، وكل شيء تحت تصرفنا..». والهدف «تقليص التمويل وعمليات التهريب والشبكة الإجرامية، وإساءة استخدام مواقف الحكومة والنفوذ» من قبل حزب الله..
يعترف الاستراتيجيون الأميركيون، أن حقبة الهيمنة الأميركية كقوة عسكرية كبرى، واقتصادية هائلة، ليست قدراً، يسير على هواه… فعودة روسيا الاتحادية إلى المسرح كقوة عسكرية، والنمو الهائل في الاقتصاد الصيني.. فضلاً عن صعود الإسلام كقوة عالمية (تركيا – ايران – ماليزيا، حركة المقاومة، العالم العربي…) يغطي مساحة من الجزيرة العالمية، تمتد من الشمال الافريقي إلى جنوب شرق آسيا تؤهله ليصبح قوة لا يستهان بها على الساحة الدولية..
ومن هذه الوجهة بالذات.. فالجغرافيا اللبنانية، التي تقع بعيداً وراء حدود الولايات المتحدة، كذلك الحال بالنسبة لسوريا، وفلسطين والأردن ودول الشرق الأدنى، تدخل بقوة ضمن المبادئ الاستراتيجية الاجرائية للولايات المتحدة.. ولكن ضمن تحوّلات تجعل لبنان أرضاً لاختبارات قوّة قديمة – جديدة!
اللواء