قمة عربية باردة في زمن ملتهب
من طموحات بقمة تاريخية تُحدث اختراقاً في الملفات العربية الحساسة، إلى مجرد السعي لجمع القادة العرب على طاولة واحدة وتفادي أي خلافات جديدة والخروج باتفاقات الحد الأدنى. هكذا بدت الصورة قبل ساعات من القمة العربية الثلاثين التي تُعقد اليوم في تونس على مستوى الرؤساء والقادة، والذين يغيب العديد منهم لأسباب مختلفة، ومعهم تُغيَّب العديد من الملفات الخلافية والحساسة. فحتى موضوع إعلان الولايات المتحدة “سيادة إسرائيل” على هضبة الجولان السوري المحتل، والذي لقي إدانة دولية كبيرة، فإن القمة العربية شهدت خلافات حوله، بين المطالبة بتحرك دولي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لإدانة القرار، وبين من يريد الاكتفاء بنصّ للإدانة. كذلك شكّل موضوع إعادة سورية إلى الجامعة العربية ملفاً خلافياً آخر استدعى تأجيله، فيما غابت قضايا حساسة عن القمة، من الموجة الجديدة من الحراك العربي، في الجزائر والسودان، إلى الأزمة الخليجية.
وكانت تونس تأمل أن تُحدث القمة اختراقاً في أيّ من الملفات
العربية الحساسة، لكن يبدو أن وضع العلاقات العربية معقّد إلى درجة أن
الطموح تحوّل إلى مجرد جمع أكبر عدد من القادة العرب على طاولة واحدة،
الأمر الذي يبدو أنه لن يتحقق أيضاً. وبينما تأكد حضور أمير قطر تميم بن
حمد آل ثاني والرئيس اللبناني ميشال عون، ووصل الملك السعودي سلمان بن
عبدالعزيز، إلى تونس منذ يوم الخميس لترؤس وفد بلاده في القمة، فإن الحضور
الإماراتي والبحريني والعُماني لن يكون على مستوى “الصف الأول”. واختارت
الإمارات حاكم الفجيرة، حمد بن محمد الشرقي، لتمثيلها. كذلك يغيب الرئيس
المصري عبدالفتاح السيسيالذي اعتذر في اللحظات الأخيرة من دون اتضاح السبب،
وملك المغرب محمد السادس والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. كما تأكد
غياب الرئيس السوداني عمر البشير، الملاحق من المحكمة الجنائية الدولية عن
القمة، لا سيما أن تونس عضو في المحكمة. مع العلم أن منظمة “هيومن رايتس
ووتش”، دعت تونس قبل أيام إلى منع دخول البشير أو “توقيفه باعتباره مرتكب
انتهاكات ولا يجب أن يحضر مؤتمرات قمة تستضيف أعضاء من المحكمة الجنائية
الدولية”.
وبعد أسبوع كامل من الاجتماعات التحضيرية المطوّلة للخبراء
ووزراء التجارة والاقتصاد ووزراء الخارجية، تُعقد القمة العربية اليوم
الأحد، ومع تقدّم الأعمال اتضح أن القمة لن تكون فارقة عربياً على أي صعيد
ولن تكون في مستوى ما تنتظره الشعوب العربية من مواقف إزاء التطورات
الخطيرة التي شهدتها المنطقة في السنوات والأشهر الأخيرة. هذا الأمر دلّ
عليه مشروع جدول أعمال القمة باسم “مشروع إعلان تونس” الذي رفعه وزراء
الخارجية بعد اجتماعهم الجمعة، وتضمّن نحو 20 بنداً، تصدّرتها القضية
الفلسطينية والصراع السوري والوضع في ليبيا واليمن، إلى جانب مشروع قرار
يرفض الإعلان الأميركي بشأن الجولان المحتل، واعتباره لاغياً. وتضمّنت أبرز
مشاريع القرارات، كلاماً بشأن القضية الفلسطينية يتضمّن تفعيل مبادرة
السلام العربية التي أقرت عام 2002، ودعوة الأمم المتحدة لعقد مؤتمر دولي
لإعادة عملية سلام ذات مصداقية وبجدول زمني. وأكد وزراء الخارجية أن أي
“صفقة أو مبادرة سلام لا تنسجم مع المرجعيات الدولية لعملية السلام في
الشرق الأوسط، مرفوضة”، رافضين أي ضغوط سياسية أو مالية تمارس على الشعب
الفلسطيني وقيادته، أو تمس مكانة القدس. كما رفع الوزراء إلى القادة العرب
بنداً يتعلق بدعم موازنة دولة فلسطين وصمود شعبها، عبر تفعيل شبكة أمان
مالية بأسرع وقت ممكن بمبلغ 100 مليون دولار أميركي شهرياً. واعتمد الوزراء
مشروع قرار بعنوان “اللاجئون، أونروا، التنمية”، يؤكد رفض وإدانة محاولات
إنهاء أو تقليص دور وولاية وكالة “أونروا”.
كما رفع الوزراء، مشاريع قرارات أخرى كالتضامن مع لبنان وأهمية دعم حكومته واقتصاده ووحدته واستقراره وسيادته على أراضيه، إلى جانب إدانة التدخّلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأهمية الحل السياسي للأزمات في اليمن وليبيا وسورية. ولم تُطرح الأزمة الخليجية على جدول قرارات القمة، وهي الثانية من نوعها التي تعقد منذ اندلاع الأزمة في 5 يونيو/حزيران 2017.
وعشية انعقاد القمة فجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قنبلة في وجه المسؤولين العرب، بإعلان اعتراف بلاده بـ”سيادة إسرائيل” على هضبة الجولان السوري المحتل، في تحدٍ للمعايير الدولية وللقرار العربي، مستغلاً الانقسام العربي. المتحدث باسم القمة، السفير التونسي محمود الخميري، أكد في مؤتمر صحافي، أنّ ملف الجولان والموقف الأميركي الأخير استحوذ على الجزء الأكبر من اجتماع وزراء الخارجية العرب الجمعة، مؤكداً أنه سيتم إصدار “بيان قوي” بهذا الخصوص في اختتام القمة.
وأشارت كواليس الاجتماعات التي كشفتها مصادر لـ”العربي الجديد”، أنه كان هناك إجماع على ضرورة توجيه رسالة قوية حول الجولان، ولكن حصل اختلاف حول الخطوات العملية بهذا الخصوص. وتباينت الآراء بين من يدعو إلى الاكتفاء بنص يرفض ويستنكر الاعتراف الأميركي بالجولان السوري كمنطقة تابعة للسيادة الاسرائيلية، وإيراد ذلك كنقطة في البيان الختامي باعتبارها بنداً أصلياً، أو التصعيد بدعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن من أجل عقد جلسة حول هذا الموضوع، وتدويل الأمر. وكرّر المتحدث باسم القمة، على مدى الأيام الماضية، القول إن القرار الأميركي حول الجولان لاغٍ ولا يغير من الواقع شيئاً، ولن تكون له تبعات قانونية، بينما أكد وزير الخارجية التونسية، خميّس الجهيناوي، أن بلاده التي ترأس الدورة الحالية، ستبذل كل جهدها للتصدي لهذا القرار.
في سياق آخر، كانت تونس ومعها بعض الدول الأخرى، تسعى لبحث إعادة مقعد سورية في الجامعة العربية، لأن “سورية دولة عربية، ومكانها الطبيعي هو داخل الجامعة العربية”، على حد تعبير الجهيناوي في مؤتمرات صحافية سابقة. لكن تونس تراجعت بسرعة لأن “القرار يعود إلى وزراء الخارجية العرب الذين لهم أن يقرروا ما يمكن أن يفعلوه، على اعتبار أن قرار عودتها إلى الجامعة العربية ليس بقرار تونسي”. وسبق أن كشفت مصادر لوكالة “رويترز” أن الولايات المتحدة كانت قد مارست ضغوطاً على دول خليجية لكبح إعادة العلاقات مع نظام بشار الأسد، وهو الأمر الذي يبدو أنه كان له الدور الأكبر في تأجيل عودة سورية للجامعة.
ويرى مسؤولون تونسيون أن الغياب العربي عن الساحة الدولية بسبب الاختلافات، منح عواصم غير عربية فرصة تبنّي ملفات حساسة تعني الدول العربية وتقرر نيابة عنها وتسطّر مستقبلها، وهو ما سيدفع العرب ثمنه باهظاً في المستقبل كما كان الشأن مع القضية الفلسطينية. وتكررت على لسان الخميري مرات عديدة جملة تلخّص الوضع العربي “هذا الملف بند رئيس في كل القمم العربية”، ما يعني أنها تحوّلت إلى مجرد ملفات يتم استذكارها منذ سنوات مع كل اجتماع.
وقال دبلوماسي عربي في تونس، تحدث لـ”العربي الجديد” طالباً عدم ذكر اسمه، إن هناك من يشبّه الجامعة العربية بشركة لإنتاج الورق، في إشارة إلى الكمّ الكبير من الجمل الإنشائية والمواقف التي لا تُحدث أي فرق في الوضع العربي، مؤكداً أن الجامعة ليست مسؤولة عن عدم فعاليتها لأن أعضاءها متفرقون وآليات اتخاذ القرارات معطّلة، إذ تُتخذ بالإجماع، ما يعني أن دولة واحدة يمكنها أن تُسقط أي إجماع على أي ملف. وكان الجهيناوي قد أكد في حوار صحافي أن الجامعة العربية لا تزال حيّة، وأن طموح بلاده إضفاء نجاعة على عملها، مشيراً في كلمته يوم الجمعة لدى تسلّمه رئاسة الدورة الحالية إلى أن المرحلة الحساسة والدقيقة التي تمر بها المنطقة العربية تستوجب “أن نحزم أمرنا” وأن “نتوصل إلى قرارات بحجم التحديات”.
وكان الملف الفلسطيني قد سيطر بشكل كبير على مجريات النقاشات خلال الأسبوع الماضي، وبُحثت كل الجوانب التي تتعلق به (الاستيطان والجدار العازل والأسرى واللاجئون ووكالة أونروا والتنمية). وقال المتحدث باسم القمة إنه تم الاتفاق على تفعيل شبكة الأمان المالي لدعم التمكين الاقتصادي الفلسطيني، بمبلغ مائة مليون دولار شهرياً، موضحاً أن الدول العربية شددت على تمسكها بخيار السلام كنهج استراتيجي في إطار مبادرة السلام العربية، وعلى رفض أي صفقة تكون مخالفة للمرجعيات والمواثيق والقرارات الدولية في هذا الخصوص (في إشارة إلى ما يسمى بصفقة القرن).
ويصادف انعقاد القمة الثلاثين، مع إحياء الفلسطينيين يوم الأرض، في وقت تحوّل فيه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي من عملية سرية لبعض الدول إلى مجاهرة علنية أمام مرأى الجميع. وتحدث مواطنون في الشارع التونسي لـ”العربي الجديد”، مُجمعين مع اختلاف أعمارهم وثقافتهم، على أنهم لا يريدون شيئاً من الزعماء العرب غير إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني ودعم نضاله لاسترداد أرضه.
أما الملف الليبي، فكانت تونس تأمل تحقيق تقدّم فيه، بعدما تبيّن أن القضية اليمنية شديدة التعقيد ولا تزال المواقف ذاتها تراوح مكانها. وإذا ما نجحت تونس في الدفع لحلحلة ليبية، فستكون قد حلّت مشكلة أمنية واقتصادية كبيرة تحاصرها منذ سنوات. وتدعو تونس إلى التسريع في إيجاد حل سياسي ليبي-ليبي لصدّ التدخّلات الخارجية، وتدعم بقوة جهود المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة. وكان وزير الخارجية الليبي، محمد طاهر سيالة، قد أكد لـ”العربي الجديد” أن الملتقى الوطني الجامع سيُعقد في زمانه ومكانه المحددين سلفاً (منتصف إبريل/نيسان المقبل في مدينة غدامس)، لافتاً إلى أنه يقع على عاتق الليبيين مسؤولية إنجاحه والمرور إلى انتخابات ثم استفتاء على الدستور.
وأمام حجم الملفات السياسية الحساسة والحرجة، تختفي تقريباً كل الملفات الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، على الرغم من أنها قد تكون الأداة الحقيقية لفعل عربي مشترك على الأرض، بعيداً عن كل الإخفاقات الأخرى. وجرى بحث مبادرة تونسية تتعلق بالنهوض بكبار السن والاستراتيجية العربية لحقوق الإنسان وخطة تحسين أوضاع اللاجئين في الدول المضيفة، وربما يُعقد مؤتمر خاص بقضية النازحين لتخفيف الوطأة عن الدول التي تضررت من استقبال اللاجئين.
العربي الجديد