من سيعلن موت “اتفاق معراب”.. ومتى؟
لم يمثل ما يسمى بـ”اتفاق معراب”، علامة فارقة في الوجدان المسيحي، بل مثّل علامة فارقة في السياسة، فبدا وكأنه أعد على عجل، لتلبية حاجة لدى كل من التيار العوني من جهة، وحزب القوات اللبنانية من جهة ثانية. وهي حاجة جاءت خلافاً لأدبيات الطرفين. فكان الاتفاق كومة رماد، نثرت فوق جمر ملتهب، لا يلبث أن ينفث لهيبه كلما دعت الحاجة.
بدأ الحوار بين الطرفين من خلال علاقة شخصية ربطت بين النائب
الحالي “القواتي” شوقي الدكاش، والوزير الحالي “العوني” منصور بطيش، برغبة
ومسعى للتوصل إلى صيغة “تفاهم الحد الأدنى”، بين القوات والتيار. وسرعان ما
دخلت كريمة الرئيس عون، ميراي، في هذه الحوارات. واستطاع الطرفان تحقيق
توافق في قضية الموظفين المياومين بشركة كهرباء لبنان. وبنوا على هذا
التوافق سلسلة تفاهمات تتصل بالشؤون المسيحية والوطنية.
“أهون الشرين”
مرحلة
الحوار الفعلي بين القوات والتيار بدأت في أعقاب تسريب لقاء الرئيس سعد
الحريري بالجنرال ميشال عون في روما. وهو اللقاء الذي حرصا على إبقائه طي
الكتمان. وشكل الكشف عنه صدمة لـ”القوات” بوصفه استغفالاً من الحريري لجعجع
والتفافاً عليه في مسألة اختيار مرشح رئاسة الجمهورية. فبدأ البحث الجدي
في تفعيل الحوار مع التيار العوني، من دون أن يكون ترشيح الجنرال عون غاية
الحوار ومنتهاه. ونقل حينها عن رئيس القوات قوله “نستطيع أن نتحاور مع
الجنرال عون والتيار سنوات”، طالما أن الالتزام بتهدئة الهجمات والاتهامات
المتبادلة بين الطرفين قائمة.
سعى النائب جورج عدوان لتولي التفاوض من قبل القوات، إلا أن رأي “الحكيم” قرّ على تكليف الوزير ملحم رياشي بها.
مع إعلان الرئيس الحريري ترشيح الوزير والنائب سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية، من دون التنسيق أو التشاور مع القوات، بدأت دوائر معراب تبحث في خيار “أهون الشرّين”، بعد ان أسقط من يدها إمكان التفاوض على سحب ترشيح قائدها لرئاسة الجمهورية، مقابل سحب ترشيح الجنرال عون، لصالح مرشح وسطي. فبدأ البحث في خيار قبول ترشيح الجنرال عون أو الوزير فرنجيه.
يومها قال الدكتور جعجع، إن العماد عون “تايواني في 8 آذار” (غير أصلي)، وهو لجأ إليها بعد “الاتفاق الرباعي” (الثنائي الشيعي، المستقبل، الاشتراكي، القوات)، وهو “أبو القرار الأممي 1559، وقانون محاسبة سوريا، وموافقه معروفة.. في حين أن النائب فرنجيه هو “ياباني في قوى 8 آذار” (أصلي)، وما زال يجاهر بعلاقاته المميزة مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد”.
وتالياً، فالعماد عون “تقليد” والوزير فرنجيه “أصلي”، في 8
آذار. فكان القرار بتسريع الحوار بين رياشي وكنعان، للوصول إلى اتفاق يرضي
غرور القوات من جهة، ويعطيها أرجحية تسمية الرئيس الماروني من قبلها
وبموافقتها، على أن تكون التسمية صادرة عن الرئيس الحريري، أي الطرف
المسلم، بوصفه هو الذي فرض خياره الرئاسي على البلاد والمسيحيين.
تبادل الشكوك
تسارعت
الخطوات، بعد أن تلقف التيار العوني رغبة القوات بالقبول بترشيح العماد
عون، وبدأت التسهيلات العونية للقوات، وصولاً إلى الاتفاق، الذي تضمن تقاسم
المناصب والمراكز الإدارية في الدولة، والوزارات والنواب مناصفة بين
الجانبين.
وتعهد الجنرال عون، من ضمن التعهدات للوصول إلى كرسي لرئاسة، أن يكون في موقع وسطي. وهذا ما هو مطلوب أصلاً من رئيس للجمهورية، أن لا يكون طرفاً في النزاعات الداخلية، بل حكم.
وقّع الاتفاق في معراب، وسط تبادل الشكوك بين الجانبين، خصوصا
من قبل الجنرال عون، الذي توقف في بكركي أثناء توجهه إلى معراب لتوقيع
الاتفاق، ونقل عنه قوله “إنه لا يثق بالدكتور جعجع” وما قد يخفيه من هذه
العراضة الإعلامية، وهو تاليا، لن يتوجه إلى معراب، طالما أن دعوة
الإعلاميين لم تتم على أساس إعلان قبول القوات بترشيح الجنرال عون
للرئاسة. ما أضطر البطريرك إلى الاتصال بمعراب، وإبلاغهم بواقع الأمر، فما
كان من رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات حينها ملحم رياشي، إلا أن خرج
على الإعلاميين ليبلغهم أن الاجتماع بين الحكيم والجنرال هو لإعلان موافقة
القوات على ترشيح الجنرال لرئاسة الجمهورية. ولما سمع الجنرال الرياشي
وإعلانه المتلفز، غادر بكركي متوجهاً إلى معراب ووقع الاتفاق.
اللدغ من الجحر
الجنرال
وتياره قرأوا في الاتفاق البند الأول فقط، وهو إعلان موافقة القوات على
ترشيح الجنرال عون للرئاسة، أما باقي البنود فخضعت لمراجعة وتدقيق الوزير
باسيل، الذي تولى رئاسة التيار خلفاً لعمه رئيس الجمهورية، واعتبر نفسه في
حل من التزامات سلفه الجنرال عون.
توالت الخيبات القواتية، فبعد الاتفاق على تسمية موظفي الفئة الأولى مناصفة بين الطرفين، كان تعيين قائد الجيش بطريقة إفرادية واستفزازية من قبل الوزير باسيل، فدخل إلى مجلس الوزراء بإسم واحد بدل ثلاثة أسماء. ولم يتحدث من الأصل مع القوات في اسم القائد، ونجح في تعيينه على رغم تحفظ وزراء القوات، وعلى رأسهم عراب الاتفاق الوزير ملحم رياشي.
تلتها خيبات أخرى، وفشل رياشي في تعيين رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان، على الرغم من مخالفته الأصول والأعراف، فابتكر ما سماه امتحانات لاختيار ثلاثة مرشحين لتولي المنصب، على أن يكونوا من طائفة الروم الكاثوليك، فكانت النتجية نجاح إثنين من الروم وماروني، وبدا وكأن الرياشي يؤشر على أحد الثلاثة، من دون أن تكون التمسية أحادية على طريقة باسيل، ولكن جميع محاولات رياشي تلطيف اختياراته، والتعدي على “صلاحيات” الطائفة التي يمثلها، من خلال امتحانات سمحت بفوز ماروني، هو الصحافي بشارة شربل، بدل تسمية ثلاثة مرشحين من الروم الكاثوليك، وطرح اسمائهم على مجلس الوزراء لاختيار أحدهم.. لجأ إلى ما سمي امتحان اختبار، فرفض الوزير باسيل وبقي تلفزيون لبنان من دون رئيس مجلس ادارة.
ولم تتوقف الخيبات القواتية، فمع الانتخابات البلدية، اختارت القوات التحالف مع التيار العوني على قاعدة أن المؤمن لا يلدغ من الجحر نفسه إلا مئات المرات، فساهمت حيث تستطيع في ايصال عونيين إلى رئاسات البلديات، وأخفقت في جعل أي مناصر من التيار العوني يقترع لصالح مرشح قواتي، فكان أن طرد الوزير باسيل القوات من بلدية البترون. وقال منسق القوات في البترون يومها عصام خوري، “الوزير باسيل بيمون”، وسحب ترشيح القواتيين للمجلس البلدي، لأن الوزير باسيل طلب تمثيل التيار العوني في مجالس بلدية بشري وقضائها بنسبة تمثيل القواتيين في بلدية البترون، فآثرت القوات ترك بلدية البترون لباسيل، على ان تستأثر ببلدية بشري!
ومع الوقت بدأ تراكم الخيبات، فمواقف الرئيس عون في القمم
العربية، وكذلك مواقف الوزير باسيل، تشير إلى أنهم من اليابانيين وليسوا من
التايوانيين في 8 آذار.
الماء العكر
وفي كل مرة يتعرض
الاتفاق للنكوص من قبل التيار العوني، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تشهد
تسعير الحملات والاتهامات المتبادلة، بين القواتيين والعونيين. وهي اتهامات
لم يخرج فيها أنصار التيار العوني عن أدبياتهم السابقة لما سمي “اتفاق
معراب”. ويشكو أنصار القوات من سعي قادتهم إلى ضبط ردود فعلهم وحصرها
وتوجيهها على الوزير باسيل حيناً، أو أي مسؤول عوني من دون التطرق إلى
الرئيس عون، محاولين التعويل على الفصل بين الرئيس وتياره. إلا أن جميع هذه
المحاولات كان تبوء بالفشل. فأمام تسعير الحملات العونية ومحدودية الردود
القواتية، كان أنصار القوات يشعرون بالحرج، على قاعدة الحرص على الاتفاق
والمصالحة المسيحية، وعدم الانجرار إلى حيث يريد المصطادون في الماء العكر
من التيار العوني.
لم ينجح اتفاق معراب سوى في تحقيق غاية وحيدة، وهي انتخاب الجنرال عون رئيساً للجمهورية. ومؤخرا، بدأت تتعالى الأصوات القيادية القواتية، المنددة بالوزير باسيل من دون أن تتطرق إلى مراجعة توقيع القوات على الاتفاق. ولكن حتى هذه المراجعة لم تعد تقدم أو تؤخر، فما جرى قد جرى. والعماد عون رئيس والوزير باسيل “سوبر وزير”.. وما يتبقى للقوات ليس إلا ما يسمح به الوزير باسيل.
فمتى يتم إعلان وفاة الاتفاق؟ أقله في الجانب السياسي منه حرصا على المصالحة الضرورية؟
جليل الهاشم /المدن