السنّية السياسية تدفع مجدداً ثمن التفاوض الإيراني الأميركي
من يعرف إيران، يعي أنها لا تختار خطواتها عبثاً. لا تقدّم
طهران تنازلاً بالمجان، ولا تسلّف أوراقاً على حساب مفتوح أو “شيك” على
بياض. لم يكن الإعلان الإيراني بشأن اطلاق سراح المواطن اللبناني الحامل
للجنسية الأميركية، نزار زكا، أمراً هامشياً في المشهد العام. وهو بالتأكيد
ليس كما ذكرت وسائل الإعلام الإيرانية ووزارة الخارجية اللبنانية، بأنه
تجاوب إيراني مع مسعى من رئيس الجمهورية ميشال عون. اختارت إيران التوقيت
الذي يلائمها، وقدّمت الذريعة التي تناسبها، لإيجاد مخرج ملائم لأي خطوة
تقدم عليها.
المسعى السويسري والبراعة الإيرانية
المساعي
اللبنانية لإطلاق سراح نزار زكا كثيرة وقديمة نسبيا.، أكثر من زيارة رسمية
أجريت إلى طهران لهذا الهدف، ولم يوافق الإيرانيون على إطلاق سراح الرجل.
اللحظة التي اختارتها طهران لم تخلُ من بث رسالة إيجابية للإدارة
الأميركية، كبادرة لنية فتح الباب أمام بدء المفاوضات. جاءت خطوة
الإيرانيين بعد تحركات دول كثيرة، باتجاه البحث عن سبل لتخفيف التصعيد مع
الولايات المتحدة الأميركية. فكانت خطوة إعلان الاستعداد للإفراج عن زكا
نتاج هذه المساعي الدولية، والتي كانت الساحة اللبنانية شريكة فيها. إذ
شهدت لقاءات سويسرية إيرانية، لم يغب موضوع زكا عن مضمونها.
خفت منسوب التصعيد الأميركي تجاه إيران، وغابت جزئياً
العراضات العسكرية الملوحة بالحرب. التقطت طهران بعضاً من أنفاسها، وعملت
على استعادة تجربة برعت فيها منذ ظهور تنظيم داعش، في فترة ولاية باراك
أوباما. حينها تكامل التنسيق الإيراني الأميركي بخوض المعارك العسكرية
المشتركة لمواجهة داعش في العراق، واستكمل ذلك سياسياً بإبرام الاتفاق
النووي. اليوم تسعى إيران إلى إعادة التاريخ وأحداثه، ففي اللحظة التي تعلن
فيها بادرتها لإطلاق سراح نزار زكا، تشهد مدينة طرابلس في شمال لبنان،
عملية إرهابية تُسجل في خانة العمليات الداعشية التي يطلق عليها صفة
“عمليات الذئاب المنفردة”. وتلك عمليات، شهدتها دول أوروبية عديدة ما بين
عامي 2013 و2015. ولطالما نفّذت من قبل متطرفين على بعد ساعات من عقد
اجتماعات تبحث الوضع السوري والتشدد إزاء نظام بشار الأسد المدعوم من
الإيرانيين، أو استبقت جلسة مفاوضات إيرانية مع دول الخمس زائد واحد.
مواجهة “الإرهاب السنّي”!
لم
تكن عملية طرابلس منفصلة في السياق العام، عن استعادة تنظيم داعش لتحركاته
في الأنبار العراقية، وكأن هناك من يريد تسريع وتيرة التفاوض الإيراني
الأميركي، على قاعدة أن المناطق السنّية هي منبع الإرهاب، وإذا ما أرادت
واشنطن مواجهة هذا الإرهاب، عليها الذهاب إلى تفاهم مع الإيرانيين لا
البقاء على صدام معهم، تماماً كما حدث أيام حشد باراك أوباما جيوشه
وطائراته لمواجهة داعش في الموصل، فعملت الطائرات الأميركية في الجو، بينما
كان قاسم سليماني يخوض المعارك على الأرض. في الوقت نفسه، لا تريد إيران
أن تظهر بموقع الضعيف أو صاحب التنازلات، فعمدت إلى ضرب عصفورين بحجر واحد،
مع إعلان الحوثيين سيطرتهم على عشرين موقعاً للجيش السعودي في نجران.
للعملية هدفان، إبعاد الأنظار عن أي تنازل قد تقدّمه إيران، وإظهار القوى
المخاصمة لها والمتحالفة مع الأميركيين على أنها ضعيفة، لا تستطيع حماية
حدودها ومواقعها.
وتلك الإشارة الإيرانية، لا تنفصل عن موقف أطلقه الأمين العام
لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الأسبوع الماضي، قائلاً: “إن موقف الوفد
اللبناني في قمم مكة لا يمثل لبنان”. داعماً موقفه هذا بتصعيد سياسي يصل
إلى حدود إعلان الاستعداد لإنشاء مصانع للصواريخ الدقيقة. موقف نصر الله لا
ينفصل عن سياق إبلاغ أميركيين من هم أصحاب القوة في هذه المنطقة.
استغلال حادثة طرابلس
ثمة
تشابه بين ما يجري حالياً، وما جرى في المرحلة التي سبقت توقيع الاتفاق
النووي في العام 2015. قبيل انجاز الاتفاق، كانت الساحات العراقية، السورية
واللبنانية تشتعل حرباً على الإرهاب. سُحقت المعارضة السورية، واجتاح
الحشد الشعبي مناطق الموصل والأنبار، فيما كان لبنان يشهد معارك يخوضها حزب
الله عسكرياً ضد الإرهابيين في عرسال وجرودها ومحيطها، بينما خصومه وعلى
رأسهم “تيار المستقبل” الممثل للسنّية السياسية، يضطر لتقديم التنازلات،
وتأكيد أنه قوة اعتدال لا تطرف. موقع الحرج الذي وضع فيه نفسه تيار
المستقبل، دفعه لتقديم براءة ذمة قاسية جداً، كانت أيضاً إحدى أبرز نتاجات
وتجليات الاتفاق النووي بين الإيرانيين والأميركيين. بل ويقال في دوائر
القرار الكبرى، أن تسوية انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية كانت آخر
الطلقات التي سددها باراك أوباما قبل مغادرته لموقعه، بفعل توقيع الاتفاق
مع إيران.
اليوم، استبقت تلك التطورات، بتصعيد أميركي إيراني، وسط بحث عن مخارج. واستبقت العملية التي شهدتها طرابلس، بحملة مركزة على السنية السياسية وحتى على اتفاق الطائف. تولى تلك المعركة الوزير جبران باسيل، واستكملها تياره من خلال التحريض على طرابلس، وعلى اللواء أشرف ريفي مثلاً، واتهامه بأنه كان يحمي الإرهابي عبد الرحمن المبسوط، خصوصاً أن ريفي أول ما هاجم التيار الوطني الحرّ واصفاً إياه بطالب رأس الطائف، ولم تتأخر التصريحات في تفسير الحملة المبرجمة التي نظّمت.
ومن يعرف باسيل، يعرف جيداً ان الرجل يعلم من أين تؤكل الكتف، وكيف يصوب مواقفه من أجل تحقيق المكتسبات سياسياً، وعبر الضرب على العصب الطائفي والمذهبي. وهو يراهن على لحظة مماثلة للتلاقي الإيراني الأميركي، لعلّها تتكرر معها لحظة 31 تشرين الأول 2016. يتماهى باسيل مع المسعى الإيراني، ويهجم على السنّية السياسية.
والهجوم على السنّية السياسية، يحتاج إلى تعبئة عصبية ومذهبية، يستكملها باسيل بجولة مناطقية ينظمها التيار الوطني الحرّ يوم السبت، تنطلق من أمام مركزه الرئيسي في ميرنا الشالوحي، في حملة شعارها إعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم والدعوة لعدم السماح لهم بالعمل. هذا لا بد له أن يكتمل ويقترن بالتخويف من السنّية العددية، لا السياسية فقط، من طرابلس إلى اللاجئين السوريين والفلسطينيين. هو هجوم يركز على طرد اللاجئين من لبنان. وواضح أن قراراً اتخذ مسبقاً، منذ أن قال باسيل قبل أيام إن اللاجئين سيخرجون إما إلى سوريا أو إلى أوروبا. هذه الحملة لن تتوقف بعد حادثة مخيم القاع. وعليه لا يبقى علينا سوى انتظار لحظة الإعلان عن بدء المفاوضات الإيرانية الأميركية، وترقّب المزيد من الأثمان السياسية التي سيدفعها “مريدو التسوية” في لبنان.
منير الربيع / المدن