باسيل يحارب طواحين الهواء ويعود إلى نبش القبور في طرابلس
لا يمكن التعاطي مع إصرار وزير الخارجية جبران باسيل إلى
طرابلس، باستخفاف أو استهزاء فقط. فبمعزل عن رفض المدينة للرجل بسياسييها
ومواطنيها، وخواء مضافة استقباله في “معرض رشيد كرامي”، إلا أن رئيس التيار
الوطني الحرّ، بما يمثّل كـ”صهر للعهد”، أراد التفوق على كلّ خصومه. فهو
بحراكه، يقول لمختلف القوى السياسية أنه يزور كل المناطق، بخلافهم إذ تقتصر
جولاتهم على مناطق نفوذهم وحسب. هو أراد أيضاً أن يقارن الناس بينه وبين
رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، تحديداً في طرابلس، حيث يعتقد باسيل
أن ليس بإمكان جعجع زيارتها، ربطاً بتهمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي (قال
باسيل ظهر السبت 6 تموز، في تلك القاعة البائسة: “لسنا نحن من اغتال رئيس
الحكومة من طرابلس”).
حيلة “تحييد” الرئيس
أراد باسيل
كذلك، أن يقول إنه شخصية مستقلة، تثير الجدل والخلافات. ولا يتوانى عن خوض
المعارك بمعزل عن رئيس الجمهورية أو العهد ككل. فيضع نفسه في مكان يواجه
فيه الجميع، محاولاً ترسيخ مكانته السياسية وموقعه ودوره، بعيداً عن رئاسة
الجمهورية. وهذا ما ينجح فيه باسيل بعد استثارة كل خصومه، الذين يستهدفونه
فقط، ويحيدون رئيس الجمهورية. بالضبط كما هي حال أعتى معارضي باسيل، كسمير
جعجع ووليد جنبلاط، اللذين يؤكدان حرصهما على العلاقة مع رئيس الجمهورية
والدعوة لحماية العهد وحماية المصالحة.
في المقابل، يتحضر رئيس الجمهورية للعب دور يؤدي إلى ترسيخ
مكانة باسيل السياسية ونفوذه، عبر مساعي قد تعمل بعبدا على إنجازها لعقد
لقاء بين وليد جنبلاط وباسيل مثلاً، بما يحقق للرجل المزيد من الندية مع
القوى الأخرى. وبحال استمرّت القوى السياسية المعارضة لباسيل مسار تحييد
الرئيس، فسيعني ذلك أنها تسير وفق ما يرسمه باسيل، الذي يستفيد في كل
الحالات: إذا ما تعرّض للهجوم، أو تم الردّ عليه، أو تم تجاهله. على هؤلاء
أن يعلموا أن مواجهة باسيل وتطويقه يتمّان باستخدام سلاحه.
إثارة النعرات
أصر
باسيل على زيارة طرابلس ليقول لأبنائها من الطائفة السنية إنه إلى جانبهم.
وربما كان ينوي إحضار فريق من وزراء وترتيب مؤتمر صحافي ليطلق جملة وعود
بمشاريع كعادته. ولاحقاً، عندما لا يتم إقرار المشاريع التي تحتاجها
المدينة، وتوفر لأبنائها فرص عمل، سيخرج ليقول: “ذهبنا إليكم للوقوف على
همومكم ومشاكلكم بعيداً عن الطائفية والعصبية، لكنّ المسؤولين لديكم قد
منعوكم من لقائنا، وحالوا بيننا وبينكم، كما كانوا في السنوات السابقة
كانوا يحولون بيننا وبين جمهورنا”. سيحوّل باسيل عدم الترحيب به في المدينة
إلى فرصة سياسية له، على طريقته، مخاطباً “السنة” في لبنان، أنه هو
خلاصهم، في الوظائف وفي الإدارات وفي المشاريع. إصراره على الزيارة وفشلها،
لن يقف عند هذا الحدّ، خصوصاً إذا ما استمرّ خصومه على كسلهم أو على
تهاونهم.
صحيح أن مختلف القيادات الطرابلسية قاطعت زيارة الرجل. فعمد
هو بالمقابل إلى مهادنتها وعدم الدخول في أي اشتباك مع السنية السياسية.
ولذلك ركّز هجومه على القوى الأخرى، التي يعتبرها تتنازع معه على استقطاب
رئيس الحكومة سعد الحريري إلى جانبها. وهو إذ أدرك أن زيارته إلى طرابلس
فاشلة بالمطلق، أراد أن يحارب طواحين الهواء، مطلقاً سهامه تجاه القوات
اللبنانية، محاولاً كعادته نبش قبور الماضي، واستثارة ذاكرة الحرب بوجه
“القوات اللبنانية” لدى الطرابلسيين مع كلامه عن اغتيال رشيد كرامي،
متناسياً الاتهام الذي أطلقه الرئيس الراحل عمر كرامي تجاه قائد الجيش
آنذاك، العماد ميشال عون، أنه عمداً لم يوفر الحماية اللازمة لشقيقه.
التنافس على الحريري
ركز
باسيل هجومه على جعجع وجنبلاط، واتهمهما إلى جانب آخرين من الذين يدافعون
عن صلاحيات رئيس الحكومة بأنهم تآمروا على سعد الحريري، متناسياً موقف
جنبلاط الواضح في تلك الفترة والذي رفض صيغة تولّي بهاء الحريري بدلاً من
شقيقه سعد. وبذلك، أيضاً أراد أن يوقع الشرخ بين هؤلاء والبيئة السنية، في
سياق معركته المستمرة للاحتفاظ بالرئيس سعد الحريري إلى جانبه.
حجم الردود السياسية على مواقف باسيل وزيارته إلى طرابلس، يتصاعد أكثر فأكثر، وليس بسيطاً، أن تتزامن زيارته إلى المدينة، التي لطالما اتهمها تياره بعاصمة الإرهاب ووصفها بقندهار، مع لقاء بين الاشتراكي والقوات اللبنانية، وزيارة أخرى لوفد من الاشتراكي إلى بكركي.
قراءة ما بين سطور هذه التحركات واللقاءات، تشير إلى أن محاولات تطويق باسيل ستبقى مستمرة، ولكن أيضاً لا يمكن نجاح هذه المحاولات بالبقاء على المسار التقليدي لمعارضي الرجل. بل عليهم إبتكار أفكار وتوجهات سياسية مختلفة عما كان سائد سابقاً. وإذا ما كان الرجل ينفّر الناس، بمواكبه العسكرية والأمنية، فعلى هؤلاء إيجاد طريقهم إلى الناس وقلوبهم وهواجسهم، قبل البحث عن لقاءات واجتماعات مغلقة وخلف الكواليس. فليعد معارضو باسيل إلى الشارع ليعودوا إلى وضوحهم، بدلاً من ترك الساحة متاحة له، بناسها أو بفراغها.
منير الربيع / المدن