ابن آل جنبلاط لا يستقيل أو يستكين. لا مجال للتعب: “حياة الإباء أو الزوال”.
الزمن لا يعبر عند وليد جنبلاط. فالدروز وفق معتقداتهم عابرون للزمن. وليد جنبلاط مسافر في التاريخ، يعيشه، يقيم فيه وإلى جانبه، ولا يبتعد من محطاته. محطات الانطلاق والركيزة التي يُبنى عليها، ويجدر التعلّم منها باكتناز معنى التجربة.
وجوه ومسارات وهدف
الرجل مولع
بالتاريخ. عاشق للفنّ والتراث. يهوى جمع “الأنتيك”. وهذه كلها تمتزج
بثقافته وبفرادة تركيبه الشخصي والسياسي. لا أحد يدعي “معرفة” سرّ وليد
جنبلاط. في كل مرّة يتكشّف للمرء وجه جديد من وجوهه الكثيرة. وهو بالتأكيد
خلافاً لكل ما يحكى أو يسوّق عنه: متقلّب أو ينقل البندقية من جهة إلى
أخرى.
خطّ سيره يشبه السير على أوتستراد. الوجهة واحدة، لكن السرعة
متفاوتة حسب خطوط السير: خطّ اليسار سريع، والوسط سرعته متوسطة، أما اليمين
فأكثر بطئاً، ولكن الوجهة واحدة. وخطوط السرعة تختلف حسب المنعطفات
والمطبات، تماماً كالطريق إلى المختارة: منعطفاتها كثيرة ليصل المرء إليها.
ومن أبواب الحكمة أن الإنسان يتأثر بطبيعته والبيئة التي نشأ في كنفهما.
وطبيعة الشوف بمنحدراته ومنعطفاته، بتاريخه وأحداثه المتتالية، مثقل
بالمحطات والمفاصل.
تاريخ وزوار
تحتاج الطريق من جزين إلى
المختارة عبر “معبر” باتر إلى حوالى 20 دقيقة. طوال الطريق ليس من علامات
تدل على وجود قصر عابق بحقب التاريخ، وللتاريخ فيه صولات وجولات من حروب
الوجود ومعارك البقاء. على يمين الطريق يبرز قصر المختارة، وعلى مدخله مسجد
الأمير شكيب إرسلان. بعض عناصر الحماية، وإجراءات بسيطة للدخول إلى الباحة
حيث تُركن سيارات البيك. القصر مفتوح الزوار جميعاً. لا إجراءات أمنية
لافتة، كل الأبواب مفتوحة. بعد الظهر يقضي وليد جنبلاط وقته في مكتبه.
المكتب في الجناح الأحداث من القصر الذي بدأ تشييده في أواخر القرن الثامن
عشر. جناح المكتب شيّد في أوائل القرن العشرين. درجان يتعانقان صعوداً إلى
ردهة مكتب ضخم، أشبه بمتحف.
مكتب – متحف
يجلس وليد
جنبلاط على كرسيّه الجلدية، محاطاً بمكتبة متواضعة مقارنة بمكتبته الأخرى
الضخمة بين أحجار معقودة بعناية. يستطيع المرء قضاء ساعات لمشاهدة ما يحويه
المكتب من كتب، صور، لوحات، تماثيل، أوسمة، بنادق، كاميرات، وعدّة تصوير
كاملة. خلف كرسيّ مكتبه صورة عملاقة لكمال جنبلاط بعباءته. علي يمينه وسام
لينين للسلام الذي منحه الإتحاد السوفييتي لـ”المعلّم”. أوسمة أخرى معلّقة
على الجدران، يقول إنه ابتاعها من دول عديدة، ولكن معظمها كان على جدار
برلين.
في سقف المكتب مروحة فريدة. إنها مروحة طائرة فرنسية، اشتراها من
باريس في تسعينيات القرن الفائت. ضاحكاً يتذكر كيف أدخلها إلى لبنان،
ويقول: كانت لها قصّة طويلة على المرفأ. لم يكن اللواء جميل السيد يريد
السماح بإدخالها، متذرعًا بأنها مروحة طائرة يريد جنبلاط وضعها في قصره.
ولكن في ما بعد “مشي الحال.. مشّاها جميل”.
خلفه لجهة اليمين بذلة جنرال
في البحرية السوفياتية اشتراها من لينينغراد. هذه الغرفة من المكتب يغلب
عليها الطابع السوفياتي بأيقوناته وأوسمته وبعض الأسلحة. هناك صورة كبرى
للينين على يمينه. بنادق إحداها “خردقة”، وأخرى من نوع 6 ملم، وكلاشنيكوف
خشبي. تحت صورة لينين صورة لياسر عرفات، وعدد من تماثيل الهند والبوذية.
أما على يساره فصور للعائلة، أوسمة أخرى، ومجسمات سفن تعني له الكثير:
“إبحار” في التاريخ، بحث عن هدوء، وغوص في أعماق بعيدة المدى.
يجعل وليد جنبلاط من مكتبه بيتاً للتاريخ، أو متحفاً سياسياً يعبّر عن مكنونات الرجل.
في
الغرفة الثانية من المكتب مزيج تمثله بعض الأواني الشامية الصدفية، تماثيل
هندية، لوحة كبيرة للينين، ساعة رومانية عملاقة، تماثيل صينية، ومناظير
أحدها منظار مدفع سوفياتي. يضحك قائلاً: “راح المدفع وبقي المنظار”.
النفس أم المعارف
في
الجناح الحديث، وهو المبنى الأساسي في القصر، ناووس فينيقي اشتراه من صور.
والرجل ملم بزوايا قصره. روي حكاية حجارة هذا الجناح. على مدخله الرئيسي
شظايا من قصف إنكليزي يعود إلى الحرب العالمية الثانية، عندما قُصفت
المختارة، لأن الفرنسيين في لبنان والجبل كانوا تابعين لحكومة فيشي.
في
الديوانية الرئيسية من هذا الجناح لوحة كبيرة خطّت عليها عبرة “اعرف نفسك”.
العبارة في جوهرها قد تعني الكثير. فجنبلاط يعتبر أن من لا يعرف نفسه لن
يتمكن من بناء أي معرفية أخرى. ينطلق من مبدأ معرفته بنفسه، وقدرته وطاقته.
يجلس في باحة الجناح، متابعاً أدق التفاصيل واليوميات بحثاً عن زيادة
الدعم لكثرة من المؤسسات الإجتماعية، والطبية والتعليمية. مهجوس هذه الأيام
بكيفية تأمين استمرار هذه المؤسسات، وبالخدمات التي تقدمها للناس.
تعب
من الاستقبالات اليومية التي تعوّدها منذ أكثر من أربعين سنة. يمضي وقته
بين المكتب والسباحة، ويتمشى في منطقة تدعى الشاوي، كانت مكاناً لاختلاء
والده. يعمل حالياً على ترميم أحد مماشي القصر، ليشيّد فيها متحفاً لكمال
جنبلاط.
كارهالأمن والمديح
السادسة والنصف مساء،
حان موعد الإنطلاق إلى السمقانية للمشاركة في احتفال مدارس العرفان التي
يبحث الرجل عن سبل تطويرها وزيادة دعمها مالياً وتعليمياً. يقود سيارته
بنفسه. ترافقه سيارة أخرى فيها عناصر حمايته الأربعة. يقوم بجولة في بعض
القرى. نافذة سيارته مفتوحة. يلقي التحية على المارة. تسأله هل تحركاته
آمنة، وألا تستدعي الظروف تغيير وجهتها، أو تشديد الإجراءات؟ سريعاً يجيب:
“أكره الإجراءات الأمنية، تشعرني بأنني مطوّق. مهما كانت الإجراءات لن تؤدي
إلى توفير حماية كاملة. من يصمم على استهدافك قادر على ذلك أينما تكون.
الفرق أن زيادة الإجراءات تمنحك طمأنينة واهية أو موهومة، وتزيد عدد
الضحايا”.
يصل إلى الاحتفال. يرفض أن تُفتح له الطريق خصيصاً. يفضّل
البقاء في الزحمة. يحادث شيخاً. ويمازح شاباً. يضحك، ويبدو في أبرز تجليات
هدوئه. يحبّ قيادة السيارة معتبراً أنها تخفف الكثير من الأحمال والأثقال:
“مريحة”، يقول ضاحكاً.
يحرص على مصافحة الجميع. يجلس على كرسيه. يراجع
كلمة كتبها لإلقائها في مناسبة سعيدة وحزينة في آن، بعد خسارته الشيخ علي
زين الدين، رئيس المؤسسة. يحين وقت كلمته. يسارع إلى المنبر، محاولاً قطع
كلمة عريف الحفل الذي يمدحه. لا يحبّ المديح في لحظات كهذه. يعتبر أن الناس
غير مجبرين على أن تُرشق أسماعهم بمزاياه. يرفض التقاليد التي لا تقدّم
ولا تؤثر ولا ترفع من قيمة أو من شأن.
يبدأ كلمته مخاطباً الشيخ زين
الدين، وكأنه يكلم نفسه أيضاً. يقرأ بعضاً من أبيات شعرية: “أهكذا تمضي
أمانينا… نطوي الحياةَ وليلُ الموتِ يطوينا… تجري بنا سفنُ الأعمارِ
ماخرة… بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مراسينا… قد كنتُ أرجو ختامَ العامِ
يجمَعُنا… واليوم للدهرِ لا يُرجى تلاقينا”.
رسالة سياسية وجودية
يكمل
كلمته مطلقاً رسائله السياسية بعناية:” أؤكد أن مسيرةَ الانفتاحِ والحوار،
مسيرةَ العروبة، مسيرةَ فلسطين، مسيرةَ فخر الدين وكمال جنبلاط، باقية
بقاء الدم في عروقنا، وبقاءَ الروح في نفوسِنا”. يتابع: “أكثرَ من أي وقتٍ
مضى سنواجهُ التحدّيات بهدوء وتصميم، ونعمل على الاستمرار في التطوير
والبناءِ. ومن التعاضدِ والتضامنِ والألفةِ ورصِّ الصفوفْ سنرفعُ التحدّي”.
يتوجه
للفتيان قائلاً:” بيمينهمْ قلمُ المعرفةِ، وبشمالهمْ بندقيةُ الكرامة،
يسيرونَ جنباً إلى جنب مع رفاقهم في الحزب التقدمي الإشتراكي للدفاعِ عن
هذهِ الأرضِ المقدّسةِ”. يعود إلى الشعر: “وفينا تسيرُ دماءُ الجدودْ…
فداءٌ سنمضي بلحنِ الصمودْ… وطلابُ نشئٍ وجيلٌ جديدْ… قسمنا يميناً بأن
لا نحيدْ… سنمضي وحتماً بدربِ الشهيدْ… حياةُ الإباءِ وإلّا الزوالْ”.
الرسالة واضحة، والمعنى في قلب “الشاعر”.
يختتم كلمته بعبارة افتتح بها
الكلام يوم ألبس العباءة لتيمور: “ادفنوا موتاكم وانهضوا”. يغادر قائلاً:
“سنذهب إلى بيت الدين”. في الطريق يقف خلف السيارات على حاجز قوى الأمن
الداخلي. يشغّل ضوء سيارته الداخلي. يلقي التحية على رجال الحاجز. يصل إلى
القصر. يركن سيارته بعيداً نسبياً. يمشي بين الجموع. يقف في الصف منتظراً
دوره. يرفض فتح مسار خاص به.
الدروز والعرب
في ردهة القصر معرض عن سوريا البلاد التي لم تعد موجودة. يتامل الصور: من دمشق إلى حلب وما بينهما، حمص وحماة… يتأثر قائلاً: “راحت سوريا”. يبدو مسكوناً بسوريا التي قرأ عنها كثيراً في الفترة الأخيرة، وحالياً يقرأ كتاب لسامي مبيض عن أحمد الشرباتي الذي كان وزير الدفاع وقت حدوث النكبة الفلسطينية.
يعود من بيت الدين إلى المختارة. صوت آذان العشاء يرتفع من مسجد الأمير شكيب إرسلان. أناس يتوجهون لأداء الصلاة. للمسجد إمام مصري من آل البسيوني. “تاريخياً العمق الاستراتيجي للدروز هم العرب”، يقول. يعرف حجم التحدّي. هو ليس ابن ساعته، بل ابن مسار طويل من التعقيدات التاريخية التي يمثّلها جبل لبنان الجنوبي، أو جبل الدروز. هناك رغبات لدى قوى كثيرة للسيطرة عليه وتهجير أهله إلى جبل العرب. تلك هي معركته التي تنتظم داخل معركة أكبر: الحفاظ على العروبة، وعلى الدول والكيانات. لذلك لا يبدو أنه سيتراجع. صحيح أن الأيام أتعبته بأحداثها ومعاركها. لكنه يعرف أن ابن آل جنبلاط لا يستقيل أو يستكين. لا مجال للتعب: “حياة الإباء أو الزوال”.
منير الربيع / المدن