لبنان يسلم لوصاية حزب الله الأعمق من الوصاية السورية
يوماً بعد يوم، تبرز بجلاء أحد أبرز أسباب قوة حزب الله في الداخل اللبناني: بهتان معارضيه وهزالهم، إن في مبادراتهم السياسية، أو في مادة بناء أفكارهم، أو في أسلوب تسويقها. وغالباً ما تكون الطروحات التي يتقدم بها خصوم الحزب، آتية من خارج الوقائع وغافلة عن أحوال الزمن. فتبدو حتى وإن كانت “صائبة”، مكررة وبالية.
هكذا كان حال تعاملهم مع حادثة الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية. خرج خصوم الحزب بلا أي موقف سياسي جديد، وبلا أي قراءة لأبعاد ما يحدث. فقط، كرروا مواقف سابقة لطالما اتخذوها، لا تقدم ولا تؤخر في المعادلة. خرجوا يطالبون بحصر السلاح بالقوى الشرعية الرسمية، وبحصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة. ولأن هذا يدخل في باب التمني وحسب، ولا مقدرة على جعله أمراً مفروضاً، تتحول هذه الطروحات في هكذا ظروف إلى ما يشبه “الترف الفكري”. ولأن ما يجري يتعلق بعدو كإسرائيل، فإن خصوم الحزب يضعون أنفسهم في خانة تسمح باستهدافهم بسهولة.
بالطبع، استهدافهم ليس مقبولاً ولا مبرراً، لكن مناخات
“التعبئة” (حتى على مستوى الخطاب الرسمي) تسمح بتخوينهم. فلبنان اليوم
ابتعد كثيراً عن البداهة المنطقية التي تفترض حصر الإمرة العسكرية
والسياسية في يد الدولة، نظراً لانقلاب موازين القوى منذ العام 2008 (اتفاق
الدوحة).
التسليم الرسمي
بدا واضحاً موقف رئيس
الجمهورية ورئيس الحكومة، وكل القوى السياسية.. بل والمراجع الدينية،
الملتزم بما رفعه حزب الله، وجهةً وسياسةً وفعلاً وشعاراً. رئيس الجمهورية
أبلغ الحريري أن هذا هو “السقف المطلوب” ولا يمكن التنازل عنه. ولذلك، كانت
مواقف الحريري بعيدة المدى في الدفاع عن الحزب وما يقرره. وهذا ما أظهر
تسليماً رسمياً لبنانياً وشعبياً بسيطرة حزب الله على الدولة وقراراتها، في
تحديد الخيارات الكبرى والمصيرية، فيما كانت الحكومة تعقد جلسة للبحث عن
حلّ لأزمة النفايات، واجتماعات أخرى للبحث في الأزمة الاقتصادية!
هذه الاجتماعات على أهميتها، تعني أن أركان السلطة تنازلوا عن القرارات الاستراتيجية، والأمن والحرب والعسكر إلى حزب الله. وأصلاً تم التعامل مع الأحداث بوصفها واقعة “أرض” حزب الله ومعقله (الضاحية). والدولة ترتضي فقط بـ”التنسيق” بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة اللبنانية، وبالحدود التي يرسمها الحزب لهكذا تنسيق.
من الواضح وفق مسار الأمور، والتي توّجتها لغة الردود على
الاعتداء الإسرائيلي، أن الجميع أصبح مسلماً لسيطرة حزب الله على البلاد،
على نحو أقوى وأفدح بكثير من الوصاية السورية، فتلك الوصاية كانت تلقى
دوماً معارضين من مختلف الطوائف، وتبقى بنظر اللبنانيين والعالم قوة غير
لبنانية. أما اليوم، فإن حزب الله جزء أساسي من النسيج اللبناني، فريق قوي
يتمتع بنفوذ شعبي واسع، ولا يمكن إلغاؤه أو تحجيمه أو التمرد عليه، طالما
أن مختلف القوى السياسية لا تجرؤ على معارضة الحزب فعلياً. فجلّ ما تريده
هو البحث عن رضى الحزب أو كسب ودّه، لعلّ هذا الودّ يحفظ لها موقعاً أو
مكسباً.
محو تناقض 2006
ما يؤكد ذلك هو انتظار
كل الدولة اللبنانية ليقول حزب الله موقفه. الجميع كان بانتظار ما سيعلنه
نصر الله. فقط، بعد سماعه بدأت الدولة بالعمل. وحتى التحقيقات أجراها
وأعلنها حزب الله، على الرغم من العراضة التي قامت بها أجهزة الدولة
الأمنية والقضائية في الضاحية.
وإذا كان لرجال الدولة والسلطة أي دور فهو يتبدى في الصراع حالياً بينهم حول من سيتولى دور الوسيط كممثل للدولة اللبنانية وحزب الله، أمام الخارج.
الأكيد أن لا أحد في الدولة قادر على تبني ما قاله الرئيس فؤاد السنيورة: “وضع الحدود والمسافة اللازمة ما بين موقف الدولة اللبنانية التي ينبغي أن تكون هي المسؤولة عن جميع أراضيها وحتى آخر سنتيمتر من الأراضي والمياه اللبنانية، وبينها وبين موقف حزب الله. ما يعني أن لا يكون في المحصلة تداخل بين ما يقوم به حزب الله وبين ما تقوم به الحكومة اللبنانية. ويصبح عندها مصير لبنان واللبنانيين ليس في يد الحكومة اللبنانية الشرعية، بل في يد من يتخذ القرارات الانفرادية في معزل عن إرادة اللبنانيين وإرادة حكومتهم الشرعية”
فالمشهد اليوم يختلف عن العام 2006، التي أصر حزب الله حينذاك
على إظهار تناقض واحد لموقف الدولة عن موقفه، وكان يومياً يكيل الاتهامات
لها. أما اليوم فإن حزب الله يشيد بالدولة وبقرارها، ويعتبر أنها تغطيه.
هذا سيكون له تأثير جوهري في المستقبل، بما يوطد مكاسبه الاستراتيجية
الكبيرة في السلطة والنفوذ، لا يمكن بعدها التفريط بها، تحت أي ظرف من
الظروف. ولهذا السبب، هو لا يريد على الأرجح الذهاب إلى حرب واسعة أو
شاملة، ويشدد على أنه قوة ردع وحسب، قوة لمنع الحرب. والرد المنتظر،
“المحدود”، على الإسرائيلي يهدف إلى وقف الاستفزاز والعودة إلى قواعد
الاشتباك التي كانت قائمة.
التسليم الدولي
يبقى
الحزب عملانياً و”واقعياً”، وحريصاً على الانتظام الذي تم تكريسه. ولأنه
بات “سلطة”، فهو قابل لتقديم تنازلات للخارج من أجل الحفاظ على هذه السلطة.
ووفق هذا المنطق يجيد حزب الله كيفية إدارة شعار “الكرامة”، ومن دون إظهار
نفسه أنه يقدم أي تنازل، لا بل ويجعل من “التنازلات” إنجازات وانتصارات،
يترجمها في الداخل أيضاً، مزيداً من النفوذ والوصاية.
ما لا يقرأه اللبنانيون المعارضون لحزب الله، هو أن كل النزاع القائم لا صلة له بدعاويهم كحصر السلاح بإمرة الدولة و”الاستراتيجية الدفاعية”. الصراع يتجاوز لبنان إلى مسار إقليمي ودولي. بل وغاية “ردّ” حزب الله المتوقع لا علاقة لها بـ”السيادة”، بقدر ما تتعلق بالنزاع بين المحور الإيراني والمحور الأميركي الإسرائيلي. وفي مرحلة ما بعد الردّ والمفاوضات التي ستليها، ستشهد تقديم تنازلات متبادلة من الطرفين. وهنا، لن تكون الدولة اللبنانية قادرة على تقديم أي تنازل أو ضمانة، لأنها أضعف من ذلك ولا تمتلك أي ورقة. بينما الحزب هو الذي يمتلك الأوراق الفعلية. وأي اتفاق سيحصل، سيكون مقابل اعتراف دولي وإقليمي بـ”الستاتيكو” الذي أصبح قائماً في لبنان، فيقرّ ويعترف بسيطرة حزب الله عليه، مع حرية الحزب بتوزيع الأدوار (والحصص) بين مختلف القوى في السلطة.
لن يكون المجتمع الدولي معنياً بتعديل موازين القوى السياسية في الداخل، لأن ما يجري هو نتاج لخارطة إقليمية متكاملة. والإشارة المهمة في كلام نصر الله هي ما انطوت على ما يشبه إعلاناً غير مباشر بالانسحاب من سوريا، طالما أعلن أن الرد سيكون من لبنان وليس من سوريا، أو في لبنان، وليس في مزارع شبعا. وقد يُعتبر تنازلاً ضمنياً في المعايير الاستراتيجية، إذا كانت فحوى رسالة حزب الله أنه عاد إلى لبنان من سوريا، ولن يستخدم الأراضي السورية للرد على عملية تعرض لها هناك. الرد في لبنان، سيكون له الكثير من التداعيات السياسية تماشياً مع أجواء إقليمية ودولية، ستمنح الحزب وصاية أوسع من الوصاية السورية وباعتراف دولي.
منير الربيع / المدن