عامر الفاخوري:فضيحة العهد
إنه العهد، ولا أحد سوى العهد ورئيسه وتياره الجارف الذي ينقل البلد من مشكلة الى أخرى، كأنه ما جاء إلا لينتقم، أو ليعوض ما فاته من مشاركة مرجوة في الحرب الاهلية التي سبقته، تضفي عليه المزيد من الشرعية، وتكسبه المزيد من “القوة”، التي إختارها شعاراً وهاجساً وبرنامجاً.
فضيحة الجاسوس الاسرائيلي عامر الفاخوري، هي آخر العمليات
الإنتقامية، وأخطرها. قبلها كان الصدام العوني مع تركيا، الذي خلف جرحاً
طائفياً لم يندمل ، وكان الاشتباك مع الدروز الذي أيقظ شياطين الشرخ المقيم
في الجبل منذ أكثر من 300 سنة، وكان التعريض بالسنّة الذي عمق الهوة
الطائفية الاولى، وكان التحريض العنصري على النازحين السوريين واللاجئين
الفلسطينيين، الذي أصابت شظاياه جمهوراً واسعاً من المسلمين وجمهوراً غير
قليل من المسيحيين أيضاً.. بصرف النظر عن مدى إدراك الجمهورين ان جذور نحو
نصف اللبنانيين هي سورية او فلسطينية.
هذه المرة، العهد والتيار يشتبكان في الجوهر مع الشيعة أولاً،
وفي قضية بالغة الدقة والحساسية: العمالة والمقاومة، وما يختزله معتقل
الخيام بالتحديد في الذاكرة الشيعية من تلك الثنائية المعقدة، وما يعنيه
وجود شيعة في الزنازين وفي غرف التعذيب، برغم أن نسبة العملاء، والمحصلة
النهائية للمقاومة، والمصير الختامي للمعتقل، لا تبيح المس بتاريخ
الطائفة.. وإن كان مجرد استحضار ذلك الجانب المظلم، في مناسبة الجدل حول
فضيحة الجاسوس الاسرائيلي، اليوم، هو بحد ذاته إساءة لا تغتفر.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال ان يُبرأ العهد والتيار من ذلك
الاختراق الاسرائيلي الخطير للبنان، إلا بالإعلان أن دخول الجاسوس الفاخوري
الى الاراضي اللبنانية، يشبه الى حد بعيد الغارة الاسرائيلية الاخيرة
بطائرتين مسيّرتين، على الضاحية الجنوبية. وهي مبالغة لا بد منها، ويمكن أن
تجد من يصدقها، ويروجها، لكي يخلّص العهد والتيار من الفضيحة ويحصر التورط
فيها ببضعة أفراد عونيين، هنا في بيروت وهناك في واشنطن، تواصل معهم
الجاسوس قبل أن يقرر العودة الى بلده الاصلي، مطمئناً الى أن سجله القذر
أصبح نظيفاً، ما يتيح له الاقامة على مقربة من ضحاياه.
قرار الفاخوري بالعودة يتسم بقدر كبير من الجرأة، بل ربما
التهور. وبدلا من الإعتقاد انه جاء بحماية “قوة” العهد ورموزه وأدواته،
وببطاقة الانتماء الى التيار ومشروعه في بلاد الانتشار، يمكن الزعم أنه
أرسل بتكليف من رؤسائه-مواطنيه الاسرائيليين، في مهمة ما، كُشفت في اللحظة
الاخيرة. وبدلاً من الافتراض انه جاء بخلفية الاحتقار او الاستخفاف
بضحاياه، يمكن الادعاء بأنه جاء ليكمل مسيرة الانتقام من المقاومين، من
الشيعة، من الجنوبيين، الذين أجبروه على الفرار من وطنه الاصلي.
المشاعر الشيعية، الجنوبية، الوطنية، مستفزة الى حدها الاقصى،
من تلك الفضيحة، التي يمكن أن تطوى صفحتها بطلب أميركي من السلطات
اللبنانية لإسترداد مواطن يحمل جواز سفر أميركي، دخل به الى لبنان، ولم
ينكر أنه يحمل جواز السفر الاسرائيلي.. لكن القضية لن تنسى بسهولة، ولن
تنفع الدعاوى القضائية التي رُفعت على الجاسوس الاسرائيلي في إحتواء الغضب،
وفي معالجة الجرح العميق الذي تسبب به العهد والتيار.
اما الإفتراض أن العهد والتيار، وبناء على تجارب مماثلة مع عملاء سابقين تحولوا الى رموز وقيادات ومرشحين للنيابة، لم يُقدرا أن عودة الجاسوس الاسرائيلي الاخير يمكن أن تثير مثل هذه الفضيحة، أو أنهما لا يعترفان حتى الآن بخطورة مثل هذه الفضيحة، ولا يقران بالحاجة الى محاسبة المتورطين فيها والمسؤولين عنها، فذلك ليس فقط من سوء التقدير والتدبير، بل هو سلوك يغامر بعناصر “القوة” الفعلية التي يتسلحان بها، والمستمدة من حلف مع حزب الشيعة الاقوى، الذي قد لا يغطي الفضيحة الجديدة هذه المرة، وبالتالي لن يكون عوناً كافياً للعونيين في تلك الموقعة، الحرجة في صلتها بالكثير من المحرمات الشيعية، والجنوبية، والوطنية، وأهمها المحرم الاسرائيلي..الذي أثبت العهد والتيار مرة أخرى أنهما لا يقيمان وزناً له، ويعتبرانه من مخلفات الماضي اللبناني الذي لم يكونا من رواده، لكنهما يطمحان الى إستئنافه.
ساطع نور الدين – المدن