مؤتمرات باسيل الاغترابية.. للصفقات والرئاسة
“صدرت التوصيات التي خرج بها المؤتمر، داعية إلى تعزيز العلاقات المتينة بين الشعبين اللبناني والأميركي، وإلى مساهمة المنتشرين في بناء اقتصاد لبنان واستثمار الفرص التي يتيحها”.
بهذه الفقرة من سطرين ونصف السطر، الواردة في الوكالة الوطنية
للإعلام، يُفترض أن يعلم ملايين بلد الأرز الخمسة المقيمين، والملايين
الأربعة عشر مليون ونصف المليون من لبنانيي بلاد الإنتشار، ما صدر عن
المؤتمر الاغترابي الخامس عشر في العاصمة الأميركية، وما تخلله من نقاشات
وجلسات عمل.
صور وكلمات بائتة
فوق تلك الجملة ديباجة
لخبرٍ طويل عن الكلمة الختاميَّة لوزير الخارجية جبران باسيل، فيها من
المناكدات السياسيَّة أكثر مما فيها من كلام عن المؤتمر والانتشار
اللبناني. ورصد أخبار المؤتمر – لا أخبار الوزير باسيل داخل المؤتمر- مهمة
شاقة فعلًا. فلا السفارة اللبنانيَّة في واشنطن، ولا وزارة الخارجيَّة في
بيروت، ولا الموقع الإلكتروني الخاص بمؤتمر الطاقة الاغترابيَّة، أتت على
ذكر أي معلومة متعلقة بالمؤتمر. وعلى موقع وزارة قصر بسترس يعود الخبر
الأخير إلى شهر آب الماضي، حينما التقى باسيل سفير روسيا. وعلى موقع
السفارة اللبنانية في عاصمة القرار العالمي واشنطن آخر ما نُشر هو صورة
شخصية للسفير غبريال عيسى ضاحكاً ضحكة عريضة مع الرئيس دونالد ترامب، عند
تقديم السفير أوراق اعتماده في التاسع من شباط 2018.
وفولكلور للصفقات
بين
مطوَّلة كلمة افتتاح المؤتمر الاغترابي، ومطوَّلة كلمته الباسيلية
الختامية، عناوين لجلساتٍ قليلة العدد عُقدت على مدى يومين، وتخللتها محطات
فلكلوريَّة فنية استمتع بها 800 مدعوًا/ة من الولايات المتحدة الأميركية
وكندا: الفنان طوني حنا غنَّى في الليلة الأولى، وعشاء لبناني عامر في
الليلة الثانية، وزرع نصبة أرزٍ في حديقة الفندق الفخم على صدى أغنية سفيرة
لبنان إلى النجوم “بمجدك احتميت”.
خمس عشرة نسخة من مؤتمرات الطاقة
الإغترابية لم تَحِدْ عن ديدنها: افتتاحيات الإبهار الإعلامي الفارغ،
المُكلِف وغير المُبرَّر، وجدول أعمالٍ لا يخرج إلى الضوء، لا في خبرٍ
صحافي، ولا في كُتيِّبٍ، ولا في مجلة، ولا في توصيات مفصلة، وختامٌ اجتماعي
الطابع على الطريقة اللبنانيَّة، وصور سيلفي وعشاء وتبادل أرقام هاتفية
لتمتين التعارف والصفقات.
استثمارات للرئاسة
ربما يرى
الجمهور المُؤيِّد للوزير باسيل في هذا التوصيف تبخيسًا ونكدًا إعلاميًّا.
لو كان الحال كذلك، هل يمكن معرفة ما هي مُخرجات المؤتمر الحالي والمؤتمرات
التي سبقت؟ أين هي “اللوبيات” اللبنانيَّة التي قيل عنها أطنان الكلمات؟
هل تَشكَّل ولو لوبي واحد؟ كيف وأين؟ كيف يمكن الحديث عن لوبيات سياسيَّة
واقتصادية، فيما الانقسامات الطائفيَّة والحزبيَّة اللبنانية الحادَّة في
بلاد الإنتشار ماثلة بين المغتربين على المثال اللبناني التقليديَّ، في
قبليَّته وحزبيَّاته القائمة في أيِّ زاروبٍ من لبنان؟
فأهل الزواريب يشاركون في المؤتمرات الإغترابيَّة. وهل
تمكَّنت هذه المحطات السنويَّة من سحب الكسل من صدور اللبنانين المغتربين،
وحثهم على التسجيل في السفارات والقنصليات لاستعادة جنسيتهم وتعزيز أواصر
علاقاتهم بوطنهم الأم؟ أين المفاعيل على الأرض لكل الكلام الذي يحثُّهم
على المساهمة في الاستثمار في لبنان وانتشال اقتصاده من الهلاك والعودة إلى
ربوع الآباء والأجداد؟ هل يمكن للوزير النشيط أن يستشهد بمشروعٍ استثماري
اغترابي واحد جلبته سلسلة المؤتمرات، ليكون الردُّ على المُشكِّكين
والمُتَّهِمين بأنَّ المؤتمرات ما هي إلًّا همروجة استعراضية تفوح منها
روائح الانتخابات والسياسة والأحلام الشخصية الرئاسية؟
في بلد الحضيض
في
هذا الحضيض السياسي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان، كم تبدو الصورة صعبة؟
وكم تبدو كلمات الوجدان والعاطفة واللعب على الوتر الفينيقي التي وردت في
الكلمة الإفتتاحية للوزير باسيل، هراءً في هراء؟!
فكيف للوزير أن يُقنع رجل أعمال أميركي أو كندي في الإستثمار في لبنان؟ وكيف يمكنه حمايته من غول الفساد الذي ازدهر في العهد الحالي؟
قد
يكون الوزير محقًا بأنَّ “اللبناني صاحب جينات موروثة من أجداده الذين لم
ينتظروا أبدًا الصدفة أو الحظ ليطرق أبوابهم، بل كانوا قبل شروق الشمس،
يَتسلَّقون الجبال ويحفرون بالإبرة (قبل اكتشاف الإبر) الصخر ليجعلوا منه
تربة خصبة”. لكن هل هذا ممكنٌ في الظروف الحاليَّة في بلدٍ صغيرٍ يلفظ
أنفاسه سياسياً، منهوب اقتصاديًا من قلةٍ من بنيه المتربصين بمقدراته،
ويعيش على صفيحٍ ساخن وسط محيط عربي متفجر؟
النقيق الباسيلي
في
كلمة الافتتاح الباسيلية، نالت قضية اللاجئين السورين الحيز الأكبر: أعاد
رفض توطين الفلسطينيين، حذَّر من صفقاتٍ عقارية، وحثَّ المغتربين على نيل
“اللبنانية” قاصدًا بذلك الجنسية لهم ولأولادهم، كي يتمكَّنوا من الانتخاب،
واقترح عليهم الاستجمام والسياحة الدينية في بلدهم واستهلاك منتجاته لدعم
صادراته.
أمَّا في كلمة الختام فقسَّم اللبنانيين إلى فسطاطين: الأول
“بينق وبينعي وبيسب” الكهرباء والنفايات والإقتصاد، والثاني يزرع الأمل
(الشجرة التي الباسيلية في حديقة الفندق) ويفكر بالحلول للنفايات
والكهرباء.
شملت مروحة عناوين المؤتمر العلاقات السياسية بين لبنان والولايات المتحدة، فرص الاستثمار في قطاع البترول والغاز في لبنان، التعاون بين لبنان والولايات المتحدة في مجالي السياحة والمنتوجات الغذائية، الاستفادة من الطاقات الأميركية في مجال نقل التكنولوجيا إلى لبنان، التعاون اللبناني – الأميركي في مجال الصحة، ومدى مساهمة الخبرات الأميركية في تطور قطاع النقل في لبنان وفي حل أزمة النفايات.
مسكين ذاك المغترب. الجميع يريد منه ما هو فوق طاقته. وزير الخارجية (المهووس بالوصول إلى الرئاسة على خطى والد زوجته ابنة الرئيس) يطلب منه الوقوف إلى جانب بلده الصغير الذي يواجه التحديات على أبواب مئويته الأولى (المستَغَلة للترويج لحلف الأقليات). فيما دعت رئيسة بلدية واشنطن، المشاركة في حفل الافتتاح، اللبنانيين الذين يمثِّلون قوة هائلة في أميركا إلى دعم المشاريع التي تَقدَّم بها الكونغرس الأميركي.
ختامًا، ماذا حصل على هامش المؤتمر؟
سفير لبنان أقام مأدبة عشاء على شرف باسيل والوفد المرافق، من دون أن يُعرف إن كانت دعوة شخصية تُسدد فاتورتها من جيب سعادته، أم أن الفاتورة تُرسل إلى وزارة الخارجية؟! أمر آخر وأخير: لماذا اقتصر الحضور السياسي والنيابي اللبناني على النائب ميشال معوض طالما أن جُلَّ مجلسنا النيابي هم رجال أعمال ولهم مصالح في بلاد العم سام ؟!
مصطفى عاصي – المدن