لا بدّ من سعد الحريري الاعتدال.. والصلابة
أسئلة كثيرة تهطل على الرئيس سعد الحريري بلا أجوبة. هو الآن
الذي يشعر بكثرة الطعنات وبالضربات الغادرة. دماثته، هدوءه، صبره على
الغضب، تحمّله للانتقاد ظاهرياً على الأقل، وتساهله عن الصغائر والكبائر،
يجعل كثراً يستسهلون الطمع به. الطمع بالرجل “الطيب” الذي يعرف ما يريد
خصومه ابتزازه به. ولا يختار سوى التعالي على ذلك.
صورة المعتدل وصورة الأب
سعد
الحريري في السياسة، كحاله في المال، يتصف بالكرم. لا يعارك كثيراً من أجل
مكسب.. تماماً كفتح يديه مالياً من دون سؤال أو من دون مقابل. هذا الطبع
الكريم، هو الذي وضعه بمشكلة مع جمهوره أو أبناء بيئته، الذين ينظرون إليه
بأنه يفرّط بصلاحيات أو مكاسب أو مناصب ونفوذ وقوة. وهو في الحقيقة يبتغي
هدفاً آخر. صحيح أنه يريد البقاء في السلطة، ويقدّم التنازل في سبيل
التسوية التي تضمن بقاءه في السلطة. لكنه يتمسك باعتداله لا بتشدده. حريص
دوماً على تقديم صورة المعتدل الذي يهمّه البلد ولا تهمّه الطوائف فيه ولا
حساباتها الشعبوية، فينفي بمراسه وممارسته كل ما اتهم به سابقاً من قبل
التيار الوطني الحرّ بانه يريد أسلمة البلد. لذلك يزهد بكل شيء، حتى وإن
ظهرته ضعيفاً حالياً، مراهناً أن ما يفعله سيسجله له التاريخ.
بالطبع، يمكن انتقاد سعد الحريري بكثير من الملفات السياسية. لكن الأكيد لا يمكن اتهامه بالأمور المالية، لا هو ولا رفيق الحريري. مع والده الشهيد شهد لبنان نهضته ما بعد الحرب، ارتبط اسم رفيق الحريري بعمران لبنان وبيروت، وبانفتاحه واستعادة الحياة السياسية فيه. وهذا ما دفع باستماتة خصوم رفيق الحريري لتهشيم صورته، تارة باتهامه بالفساد، وطوراً بشنّ الحملات السوداء عليه وصولاً إلى اغتياله. كان رفيق الحريري يريد إخراج لبنان من قوقعة القبضة السورية. ارتكز في مساره على جملة نقاط أساسها اقتصادي، معتبراً ان النموذج الاقتصادي الناجح الذي يمثّله قادر على إخراج لبنان من السطوة السورية، بدلاً من اللجوء إلى المواجهة السياسية. استشعار هذا الخطر من قبل الخصوم أدى إلى اغتياله.
هذا نفسه ما يتعرض له سعد الحريري، سياسياً ومعنوياً. الأسئلة
التي لا يجد المرء أجوبة عليها كثيرة على تناقضاتها. فالجميع يريد النيل
من سعد الحريري، حلفاءً وخصوم. جميعهم يريدون استهدافه للكسب منه أو على
حسابه. وهم لذلك، يتحولون من حلفاء إلى خصوم وبالعكس، حسب الطلب وحسب ما
تقتضيه المصلحة. محاولات تهشيم رفيق الحريري، يتعرّض لها سعد، وهو بحال
أضعف من حال والده، وظروف مختلفة كلياً. في ظل غياب أي احتضان عربي أو دولي
حقيقي للحريري، على الرغم من تمتعه بعلاقات قوية جداً ومتشعبة.
تحمّل المسؤولية
يمثّل
الحريري حاجة للبنانيين وغيرهم، من حلفاء وخصوم. من موقعه السياسي الذي
يحافظ عليه، قادر على التواصل مع القوى الإقليمية والدولية المتناقضة. وهذا
جانب لا يريده المبغضون، الذين لا يرون في الرجل إلا مجالاً لابتزازه
والضغط عليه. بغية الحصول منه على ما هو أكثر. عندما عاد الرجل إلى السلطة
بتسوية 2016، عاد بنقاط قوة متجمعة لديه، علاقاته الدولية والإقليمية،
تمثيله في لبنان، استحالة تشكيل حكومة ذات معنى ودور من دونه، وحاجة خصومه
إليه.
يعرف الرجل قدرته جيداً، وعلى الرغم من كل ما مرّ به من أزمات لا يزال يتمتع بحيثيته الشعبية، المراد استهدافها، إما لإضعافه وإبقائه بحاجة إلى الخصوم، وإما لفتح الطريق أمام من يطمحون إلى منافسته داخل الطائفة.
ارتضى لنفسه تحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية، لكنه لا يجد غير الهجوم من الآخرين، بلا أي مساندة أو مساعدة.
ليست صدفة تزاحم الهجمات التي يتعرض لها. من قضية العارضة الجنوب أفريقية إلى الهجوم المستمر عليه من قبل رئيس الجمهورية وفريقه، ووصف حكومته بأنها غائبة عن الوعي. ولا ينفصل ذلك، عن الحملات الممنهجة التي يتعرض لها، من اتهامه أو اتهام وزرائه بالفساد، وتشكيل لجان تحقيق إبتزازية، إلى استهدافه بسمعته وحياته الشخصية. قضية جنوب أفريقيا، تحتاج إلى المزيد من الإيضاحات. لا يمكن لرجل أن يدفع هكذا مبلغ لعارضة أزياء، ولا يمكن أن يسدد المبلغ دفعة واحدة. هناك لا شك لغز معقد. وحسب بعض المعلومات المتوافرة، فإن اسم الحريري قد دُسّ بهذا الملف، فيما علاقته كانت بتحويل المبلغ المالي، واستخدام اسمه في تحقيقات كانت تجري هناك. وحسب المعلومات أيضاً، فإن شخصاً كان على علاقة بالحريري، هو الذي طلب منه ذلك، والمبلغ المحوّل يتعلق بمشاريع مع والد العارضة.
التماهي مع المزاج الشعبي
بعيداً من نظرية المؤامرة، الأكيد أن أطرافاً متعددة تهدف للنيل من الحريري وسمعته، وتستهدفه بأي طريقة، سواء شخصياً وفي خصوصياته، أو كما هو الحال بالنسبة إلى استهدافه المستمر في السياسة، والذي دفعه إلى اتخاذ قرار جريء، يلاقي تطلعات جمهوره، بإلغاء الندوة الحوارية بين كوادر تياره والوزير جبران باسيل. قرار الحريري لاقى صداه في الشارع، وأثبت أن أي موقف من هذا النوع على بساطته، قادر أن يدبّ الحمية الحريرية في قلوب المناصرين سريعاً، المسألة هنا لا تحتاج إلى مواجهات كبرى ولا إلى فتح حروب على غرار مرحلة ما بين الـ 2005 و2011. اتخذ الحريري قرار الإلغاء، بجرأة وواقعية، وبتماه وانسجام واضح مع بيئته الشعبية، وهذا مثال بسيط على قدرته على استعادة شعبيته بسهولة، خصوصاً أن قرار الإلغاء جاء بعد الهجوم الذي تعرض له من نواب التيار الوطني الحرّ، إلى حد اتهامه واتهام والده بالفساد.
لا بديل
يحتاج الرئيس سعد الحريري إلى تغيير في الأداء. أي تغيير من هذا النوع في الشكل والمضمون وفي إدارته للشؤون السياسية مع فريقه تكون كافية لاستعادته زمام المبادرة، باستعادة الأرض واستعادة جمهوره. وهذه وحدها ستعيده إلى مرتبة لا ينازعه فيها أحد. يستعيد صلابته، فتتكسر عليها كل أمواج المهاجمين ولا يؤثر بها عصف كل الرياح مهما كانت هوجاء. لأن مشكلتهم معه تبقى في نبله وترفعه، وعدم لجوء إلى المناورة. وحتى من يدّعي الدفاع عنه يريد ثمناً. فهو لا يتعرّض للكمائن من الحلفاء فقط، بل أيضاً من الخصوم، الذين يرفعون لواء الدفاع عنه حالياً، بهدف تحميل السعودية مسؤولية أي طارئ قد يحصل أو انقلاب، باعتبار أنها هي التي لا تريده. والحقيقة أن هذا الأمر غير مطروح، لأن لا بديل عن الحريري، ولا قرار دولي أو إقليمي سيكون قادراً على ذلك، بالمدى المنظور.
المدن