ما لم يقله الحريري وجنبلاط :لبنان يدفع أثمان انزلاقه إلى حضن “الممانعة”،
انفجرت “التركيبة” السياسية في البلاد على نحو مباغت.
والتحركات التي انبثقت في الشارع، تعبيراً عن اختناق الناس من الإجراءات
الضريبية، جعلت الشارع مفتوحاً أمام كل الاحتمالات وكل الأصوات والخطابات
من مؤيدين ومعارضين. انفلت الشارع من عقاله، وسط الكثير من النظريات
والتحليلات، حول “مؤامرة الانقلاب” عبر استغلال التحركات الاحتجاجية، التي
ضمّت مواطنين من مختلف المشارب والانتماءات، والذين طالبوا صراحة بإسقاط
العهد، والحكومة.
أصحاب القرار
طبعاً، التحركات
الاحتجاجية المشروعة حدثت تعبيراً عن غضب الناس من السلطة مجتمعة. لكن،
أيضاً، لا يمكن فصل ذلك عما يجري سياسياً في لبنان ضمن لعبة المعادلات
الإقليمية. المسار السياسي كشفه وليد جنبلاط ليل الخميس، بعدما قال إن
رسالة خارجية ومحلية قد وصلت للجميع. المطلوب هو وجود حكومة من دون قوى
معارضة بداخلها. والمقصود بالمعارضة هنا هو القوى التي تعترض على مسار حزب
الله والتيار الوطني الحرّ، والتي تعبر عن انزعاجها من هيمنتهما على
القرارات في الدولة، وهما اللذان يحددان الوجهة السياسية، في الداخل
والخارج، وفي رسم السياسة المالية والاقتصادية في البلاد.
وكشف جنبلاط أنه أجرى إتصالاً بالرئيس سعد الحريري، معتبراً
أن الأمور تذهب باتجاه الأسوأ. وهناك نفق مظلم وطريق مسدود. فالأفضل أن
يذهبا سوياً إلى الاستقالة. واعتبر جنبلاط أنه لا يريد أن يستقيل وحيداً،
لأنه لن يترك سعد الحريري. وقد يلتقي في ذلك مع وجهة حزب القوات اللبنانية.
ويعتبر جنبلاط أنه من الأفضل عدم الذهاب إلى حكومات وحدة وطنية كاذبة،
وتسليم البلاد إلى “أصحاب القرار الفعليين”، الذين يدعون أنهم أصحاب
الإصلاح والتغيير ويحمّلون الآخرين المسؤولية.
ثمن الممانعة
ما
لم يقله جنبلاط ولا الحريري هو أن لبنان يدفع ثمن التحاقه بإيران، وثمن
سيطرة حزب الله. لبنان يدفع أثمان انزلاقه إلى حضن “الممانعة”، فيما
اقتصاده يقوم على صلته بالغرب وبالعالم العربي. بلد بات تحت العقوبات
المعلنة وغير المعلنة، لا يمكنه أن يصمد اقتصادياً. فإذا كانت إيران تأنّ
وسوريا تفلس وحزب الله يختنق مالياً فكيف الحال باقتصاد دولة صغيرة كلبنان،
علاوة عن عزلته يتفاقم فيه الفساد ويستشري؟!
لا ينفصل كل هذا التصعيد السياسي الذي بدأ مع الكلام عن “قلب
الطاولة”، وتطبيع العلاقات مع النظام السوري، عن مسار أبعد زمنياً، لجهة
المعركة الرئاسية التي فتحت باكراً، وفي إطار لعبة المصالح السياسية. ولا
شك أن حزب الله وحلفاءه يفكرون في كيفية تحقيق المزيد من المكتسبات
السياسية، بتسجيل النقاط. وكما فاز حزب الله بانتخاب عون رئيساً حليفاً لست
سنوات، فهو يفكر أيضاً في ولاية رئاسية مستقبلية لست سنوات أيضاً لحليف
له. ولذلك كانت لقاءاته مع باسيل وفرنجية، التي وعلى الرغم من الكلام عن أن
الانتخابات لا تزال بعيدة، إلا أن الغاية هنا تتعلق بشحذ الهمم، ورص
الصفوف، لتغيير المعادلات في البلاد.
إسقاط الحكومة
وقد
تكون المعادلة الجديدة هي استغلال غاية الحريري في إنجاز سريع للموازنة،
لفرض شروط سياسية جديدة عليه. من بين هذه الشروط هناك حاجة لتشكيل حكومة لا
يكون فيها الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وهذه الرسالة التي
قرأها جنبلاط وتحدث عنها، وسط معلومات عن أن الحريري تلقى وعوداً ونصائح،
بأنه سيعود رئيساً للحكومة، على أن تكون مصغرة، وليس فيها قوى سياسية “توجع
الرأس” كجنبلاط وجعجع.
لكن جنبلاط، الذي كان يتظاهر يوم الإثنين ضد الضرائب، وافق بالأمس على الإجراءات الضريبية، لأنه يريد أن يبقى إلى جانب الحريري. وقرر الاستمرار إلى جانبه عندما توجه إليه بالقول: “نبقى معاً أو ننسحب معاً”. الكرة الآن أصبحت في ملعب الرئيس سعد الحريري، وما الذي سيقرره في ضوء موازين القوى الإقليمية والمحلية. وبالتأكيد، أن كل الضغط السياسي يهدف إلى تثبيت معادلة جديدة، تتغير بموجبها موازين القوى بشكل كامل، ويتم من خلالها القبض على القرار كاملاً. كل ما يجري، لا ينفصل عن الردّ على العقوبات والضغوط المالية التي يتعرض لها لبنان وحزب الله، ولا ينفصل عن استعجال الحزب لإعادة التطبيع مع النظام السوري في إطار الإغراءات الإيرانية المقدمة للنظام لقطع الطريق على تقاربه مع العرب.
قد يطلب الحريري مهلة لإصلاح الأوضاع، وعدم تعريض حكومته أو التسوية لأي اهتزاز حقيقي. لكن عملياً، التسوية انهارت بكاملها. فلم يتم الحفاظ على الطائف أبداً، وتطويق الحريري وصلاحياته مستمر، وكذلك تطويق قوى أساسية شاركت في التسوية. سواء نجح الحريري بتجنب الاستقالة وتطيير حكومته أم لا، فما جرى ليل الخميس سيؤدي إلى انفجار سياسي شامل.
ومهما كان الاتجاه السياسي، حراك الشارع جاء تعبيراً نقياً عما يختلج في نفوس اللبنانيين من نقمة على حال اليوم وعلى هذا العهد المغترب عن أوجاعهم، وعلى هذه الحكومة الرديئة، صيغة وأداء وقرارات.
المدن