كلمة عون: براءة من الرئاسة.. فلماذا لا يستقيل؟
يشبه أداء أركان السلطة في لبنان حالياً، أداء عدد من رؤساء الأنظمة العربية، أولئك الذين خرجوا على مواطنيهم بعد أيام من الاحتجاجات المطالبة بإسقاطهم: منفصلين عن الواقع، أو محاولين حشو الواقع بما في أذهانهم وخطبهم من أوهام، لم يعد لها من وجود إلا في رغباتهم.
عون: بن علي مقلوباً
هذا ما تجلّى في مواقف
رئيس الحكومة سعد الحريري، وموقف الرئيس نبيه برّي، وأخيراً في كلمة رئيس
الجمهورية ميشال عون في رسالته الموجهة إلى اللبنانيين.
استستنخ عون
تجربة زين العابدين بن علي حين قال للناس: “الآن فهمتكم، وفهمت ماذا
تريدون”، ولكن فهمي وفق الطبيعة اللبنانوية. فاللبناني غالباً ما يحب أن
يكون في مقدمة المبتكرين. قلب عون المعادلة، فتوجه للناس قائلاً: لقد
فهمتمونني في تحركاتكم! وأنتم تطالبون بما كنت أطالب به. والحريري سبقه منذ
أيام في القول إن مطالب الناس هي مطالبه.
في كلمته لم يتخلّ عون عما كان يردده في الثمانينيات، وحمله معه إلى القصر الجمهوري منذ ثلاث سنوات. ورسالته الراهنة، تطابق تماماً ما قاله قبل نحو شهر، أثناء عودته من نيويورك، وكانت أزمة لبنان المالية والمعيشية الصعبة قد انفجرت، فقال: “ليس لدي علم بما يحصل، أنا كنت في الخارج عندما حصلت هذه القضايا”.
أما في كلمته اليوم، فتوسع في البراءة، فبرّأ نفسه ورهطه من
السلطة المتربعين مع حزب الله في سدتها منذ سنوات. وهذه لعبة يجيدها عون
منذ بداية بروزه قائداً للجيش، ومن ثم دخوله إلى اللعبة السياسية والقصر
للمرة الأولى والثانية.
الإنكار الدائم
أنكر عون مسؤوليته
عن أي شيئ في لبنان، وحمّلها لشركائه في السلطة، على القاعدة الثابتة
لديه: البراءة وارتداء ثوب المخلص المغلوب على أمره، والهروب إلى الأمام.
إنكاره اليوم وصل إلى حدّ التضارب في الحديث عن الدولة المدنية وإلغاء
الطائفية، وهو الذي عاد إلى السلطة حاملاً لواء استعادة حقوق المسيحيين،
واعتبرها معركته الوحيدة. ومنذ وصوله للمرة الثانية إلى القصر الجمهوري، لم
يقدم، عملياً، أي شيء جديد يجعله مختلفاً عن السياسيين الآخرين. لم يستجب
إلى أي مطلب من مطالب الناس. وما قاله في كلمته الأخيرة، قاله للالتفاف على
ما يجري. وفي حديثه عن استعادة الأموال المنهوبة، حاول توجيه سهام الاتهام
إلى خصومه السياسيين أو الذين يتشارك معهم في السلطة، مستمراً في تنزيه
نفسه، متناسياً أنه أساس السلطة منذ ثلاث سنوات، وشريك رئيسي فيها منذ أكثر
من عشر سنوات.
مرشد التلامذة
وهو بهذا أراد فصل نفسه عن
أداء فريقه السياسي، فقال إنه ضد الفساد، وأن النظام (الذي يجلس في سدته)
هو نظام فاسد، ويمنعه من مكافحة الفساد. ومن هذه حاله عليه أن يستقيل، لا
أن يستميت للبقاء في منصبه، ويتبرأ من دم يعقوب!
وهو ذهب بعيداً في البراءة والتنصل: تجاهل وجود الحكومة،
وتوجه إلى المتظاهرين طالباً منهم أن يحاوروه، على طريقة “حواره”
التلفزيوني مع تلامذة المدارس الذين يأتون بهم إلى القصر الجمهوري ليرشدهم
إلى الأخلاق القويمة.
أكاذيب
ألمح عون إلى إعادة فتح
صفحات كتاب الإبراء المستحيل حول الأموال المنهوبة، والاقتصاص من السارقين.
واضح من يستهدف: رموز الحريرية، أو التركيبة التي كانت قائمة قبل وصوله
إلى الرئاسة. أي ترويكا الحريري وبري وجنبلاط. وهذا تطابق كامل مع خطاب
وممارسة رهطه العوني – الباسيلي، الذي وصل إلى ماهو عليه بتعطيل المؤسسات
الدستورية، واستمر به في كل منعطف وحادثة، وإذا لم يكن الحكم خاضعاً لهم.
والأغرب من هذا كله هو كلامه عن على ضرورة إنشاء “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”. ناسياً أنه هو من عرقل، بل رفض إنشاءها. فمنذ شهرين أُقر قانون إنشاء هذه الهيئة في مجلس البواب، وأُرسل القانون إلى رئيس الجمهورية لتوقيعه. وللرئيس الحق في توقيعه أو رده إلى مجلس النواب لإعادة درسه. لم يوقع عون القانون، بل رده إلى مجلس النواب. وهذا ما لم يحصل إلا مرات نادرة في تاريخ الجمهوري اللبنانية. أي أن عون هو من رفض قانون مكافحة الفساد، وأعاده بلا توقيعه إلى مجلس البواب، واضعاً عليه 23 حجة قانونية لنقضه، 11 منها لا علاقة لها قط بمشروع القانون. وعملت لجنة من خبراء قانونيين، بينهم غسان مخيبر، على تفنيد حجج الرئيس عون، الذي يحاول اليوم التبرؤ من ما رفضه قبل شهرين!
نسي هذا كله ليقول إن تغيير النظام لا يحصل في الساحات، بل في المؤسسات التي عمل على تعطيلها طوال تاريخه السياسي. وعندما قال إن عقم النظام وصلاحيات إقرار القوانين الإصلاحية ومكافحة الفساد، هي من مهام مجلس النواب، أراد القول إنه يريد تعديل الدستور أو استعادة الصلاحيات. وهذا ما يحصل منذ انتخابه رئيساً للجمهورية.
جلّ ما أراده رئيس الجمهورية في كلمته الأخيرة، هو محاولته
الاستثمار في التحركات الشعبية العارمة، لتعزيز وضعيته السياسية والدستورية
وصلاحياته في وجه رئيسي الحكومة ومجلس النواب، من دون أي التفاتة حقيقية
لمطالب الناس.
الخوف من القوات اللبنانية
الجديد الوحيد
الذي قدّمه عون هو كلامه عن البحث في تعديل الواقع الحكومي الحالي، لتتمكن
السلطة التنفيذية من متابعة مسؤولياتها من خلال الأصول الدستورية. لم يوضح
كيف سيجري هذا التعديل. هل يقتصر الأمر على تعديل وزاري – مع الإشارة
الشائعة إلى أن أي تعديل يجب أن يشمل الوزير جبران باسيل – أم أنه يريد
استقالة الحكومة، علماً أن هناك قناعة محلية ودولية بأن الحكومة غير قابلة
للتعويم.
تفيد معلومات أن عون فتح الباب أمام التعديل الحكومي، بل واستقالة الحكومة، خصوصاً بعد لقاءات عقدها مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، والسفير الفرنسي. وتشير المعلومات إلى أن المواقف الدولية تطالب بتعديل حكومي. لكن مصادر تشير إلى أنه لا يمكن الحديث عن تعديل حكومي، قبل خروج الناس من الشارع. لأن ذلك يظهر السلطة مهزومة، ولأن عون لا يريد، بالتناغم مع الحريري، أن يخضع للتعديل الحكومي بعد محاصرته في المناطق المسيحية، وفي المناطق الأخرى تالياً. فهو لا يريد أن يبدو خاسراً أمام القوات اللبنانية. وهذا ما تجلى في اتصال الحريري بعون مرحباً بخطوة البحث بالتعديل الحكومي.
منير الربيع – المدن