البيت العوني يتصدع والشارع المسيحي يلفظ باسيل
تسللت قوة الانتفاضة اللبنانية الراهنة إلى داخل البيت العوني الرئاسي، أو الأحرى إلى داخل عائلة الرئيس. فمعادلة “جبران باسيل أو نحرق البلد”، كشفتها تحركات الناس وصرخاتهم التي تعالت وتوحدت من الشمال إلى الجنوب، اعتراضاً على الوزير العوني الملك. فلا حكومة من دونه، ولا تعديل وزاري يستبعده.
لعيونك باسيل
هو الثابت ورجل العهد القوي. تماماً كما قال رئيس الجمهورية ميشال عون ذات مرّة: “لعيون صهر الجنرال ستين عمرها ما تتشكل حكومة”. وهذه المعادلة لا تزال تتحكم بعلاقة عون وباسيل.
حجم الاعتراض الوطني على باسيل كان له وقعه “المسيحي” المدوي، والعائلي العوني أيضاً. فأثناء كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون، كانت ابنتاه ميراي وكلودين، تعيدان تغريد جملة سياسية أساسية قالها عون: إعادة النظر في الواقع الحكومي. حماسة ابنتي الرئيس المفرطة والسريعة لهذه الجملة، وتأييدهما، والدفع في اتجاه تطبيقها، ناجم عن إشكال أصبح معروفاً بين باسيل وفريقه المحيط بالرئيس من جهة، وفريق آخر محيط بعون تقوده ابنتاه ميراي وكلودين.
قائد الثورة المضادة
قصدُ ابنتي الجنرال، بإعادة تغريد هذه الجملة، هو الاستعجال لإخراج باسيل من المعادلة. فهو الذي قطع الطريق سابقاً على اختيار ميراي لوزير يمثلها في الحكومة، وقطع الطريق على توزير النائب شامل روكز، ولم يترك مناسبة إلا وحاصره فيها. حان وقت ردّ منافسي باسيل عليه داخل “العائلة”. فبعلاقته بالحريري، وبقربه مع الرئيس، وثقة حزب الله المطلقة به، هو الذي يأخذ على عاتقه قيادة الثورة المضادة اليوم في الشارع. وهذا بعدما وصل حزب الله إلى رفع لاءاته، ليس في وجه إسقاط الحكومة والعهد فقط، بل في وجه استبعاد باسيل منها. وهذا ينطوي على أبعاد سيكون لها مفاعيل سياسية مستقبلاً، قد تتطور إلى وعد حزب اللهي بدعم جبران باسيل لرئاسة الجمهورية، لحسابات استراتيجية، تُبقي التحالف بين الطرفين عميقاً.
في المقابل، كانت ابنتا الرئيس تحاولان مخاطبة رغبة الشارع،
في ردّ مباشر على باسيل الذي ظهرت وقائع استفزازه البيئات اللبنانية كلها،
والقوى السياسية المختلفة. فهو لم يترك جهة إلا ودخل في إشكال معها. مؤمناً
أن ذلك يقوي زعامته في الشارع المسيحي.
الشارع المسيحي والباسيلية
لكن
هذا الشارع انفجر بوجه باسيل. وانفجاره هذا انعكاس لانفجار سياسي داخل
التيار والعائلة العونية. وهو ليس الأول من نوعه، لكنه الأكثر ظهوراً،
وأحدث ندوباً في العلاقة بين فريق الرئيس، وحتى في تكتله النيابي، والداعم
له أو المحسوب عليه.
في الوجدان العوني، وبعيداً عن الخطاب الذي يتقنه باسيل في
تحفيز جمهوره وشد عصبه، فإن أكثر ما يمثله الرجل هو الفعل النقيض لما نمت
عليه الحالة العونية، الوليدة من رحم الجيش والولاء له، وحاكت المسيحيين
وطبقتهم الوسطى. هذا كله خسره باسيل منذ وصول عون إلى الرئاسة. فالعلاقة
بالمؤسسة العسكرية وقيادتها سيئة، وصلت إلى حدّ التدخل بعمل قائد الجيش
ومحاولة تغيير مدير المخابرات. وهذا يرتد خسارة على باسيل في رئاسته التيار
العوني، وفي صلته بأبرز رموز الوجدان العوني: الجيش. الخسارة الثانية، هي
في التناقض بين مواقف عون ضد الطبقة السياسية والسياسات الاقتصادية ومصالح
الأثرياء، في مقابل إرساء باسيل نموذج الأوليغارشية داخل التيار، وفي
علاقاته السياسية. فهو الذي ترأس التيار بالتزكية بلا أي انتخابات، وتدخل
عون لسحب المرشحين في وجهه. فتفاقمت النقمة في صفوف نواب لا يزالون في
تكتله، فيما استقطب هو رجال الأعمال وأصحاب الأموال إلى قيادة التيار
ومفاصله، وإلى المجلس النيابي والوزارة.
تصدّع البيت العوني
نموذج
باسيل هذا الذي دفعه إلى اتخاذ إجراءات تأديبية بحق كوادر التيار
المناضلين منذ الثمانينيات، وسّع من الحلقة الاعتراضية عليه. هذه هي الحالة
الحاضرة بقوة اليوم في الساحات وفي الانتفاضة، وعلى رأسها قياديين سابقين
في التيار، كأنطوان نصر الله ونعيم عون الذي بعث برسالة إلى رئيس الجمهورية
حول حماية موقعه وتاريخه، في إشارة ضمنية إلى ضرورة إبعاد باسيل.
تصحيحيو التيار من المتأثرين والمؤثرين بالانتفاضة الحاصلة، وخصوصاً في الساحة المسيحية.. يستعيدون الوجدان العوني القديم. وهذا يوّسع الندوب داخل القصر الذي يتحكم باسيل بمعظم مفاصله. فمنذ اندلاع الاحتجاجات يقيم باسيل في القصر الجمهوري ولا يغادره، فيما غادرته قبل مدة وعادت إليه مستشارة الرئيس ميراي عون، بسبب تعاظم خلافاتها مع باسيل. وانتقل الخلاف إلى العلن. وآخر تجلياته، إعلان النائب شامل روكز استقالته من تكتل لبنان القوي، وخروجه بموقف واضح في تأييده التحركات، معتبراً أن كلام الناس يعبّر عن طروحات عون التاريخية والأساسية. وهو دعا إلى استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة. موقف النائب الآخر في التكتل العوني نعمت أفرام، يأتي مكملّاً للخلافات القائمة داخل التكتل، والتي عبر عنها أيضاً النائب ميشال معوض. صحيح أن أفرام ومعوض لا ينتميان إلى التيار العوني، لكن موقفهما دليل على “مصلحية التيار”، لا مبدأيته في وجدان العونيين.
استقالة روكز وأفرام، وهما نائبان في كسروان معقل التيار، تأتي استجابة أو تعبيراً عن الجو المسيحي الحقيقي، الذي أصبح بعيداً جداً عن طروحات باسيل. وهذا سيكون له انعكاساته في هذه الدائرة في الإنتخابات المقبلة. وروكز الذي يمثل جزءاً من وجدان التيار، يعمل وينسق مع قياديين آخرين، لعدم سلخ التيار عن حقيقته. وهذا الحراك الحقيقي الصامت منذ مدّة، بدأ صوته يعلو ويرتفع، على الرغم من حالة التجاهل والتعتيم الإعلامية الكبرى، على ما يجري في صلب هذه التحركات وخلفياتها. وما يجري صوغه من أفكار وتوجهات في هذا الحراك، أبرزته وسائل الإعلام: خروج النائبين من التكتل، من دون البحث عن الدوافع والتداعيات. وهذا ربما ما يحتاج إلى الظهور والإبراز حالياً: الحالة الاعتراضية داخل البيئة العونية.
المدن