السلطة تستنجد بفرنسا وتهدد اللبنانيين بالفوضى
يتطور الصراع بين السلطة والمنتفضين اللبنانيين. تصرّ السلطة
على توسيع رقعة الضغط، كي تتمكن من إخراج المتظاهرين والمحتجين من الشوارع.
فلم تعد المنازلة عند القوى الحاكمة في استعراض الشوارع لأن ذلك لم ينفع
(تجربة تظاهرة “التيار الوطني الحر”)، ومحاولات زجّ الأحزاب لجماهيرها في
حشود الانتفاضة واختراقها، فشلت. لذلك يتم اللجوء إلى أساليب مؤذية، كتوظيف
الأزمة النقدية لصالح السلطة، عبر اتهام المنتفضين بالتسبب بهذه الأزمة.
وهذا ليس فقط دليل على حال الإنكار، بل دليل خبث السلطة في مواجهة
اللبنانيين بأموالهم وأرزاقهم ولقمة عيشهم، عبر الإجراءات التي تلجأ
المصارف إلى اتخاذها وحجب النقد عن اللبنانيين، للضغط عليهم، وإخراجهم من
الشوارع والساحات، ليصبح اهتمامهم محصوراً في كيفية توفير أموالهم والحصول
عليها.
زرع الخوف والشقاق
عملياً دخل لبنان في الانهيار
منذ فترة تسبق الانتفاضة بكثير. لكن أركان السلطة كانوا يتوافقون على حال
الإنكار. لا بل كانوا يتعاونون على منع الناس والاختصاصيين من التحذير من
حقيقة الوضع الاقتصادي المزري، وصولاً إلى التهديد باستدعاءات مكتب الجرائم
الالكترونية بتهمة الأخبار الكاذبة، و”التشويش على الاقتصاد المزدهر”.
اليوم أصبح الانهيار واقعاً وكارثياً، وتريد السلطة استثماره أيضاً
لصالحها! وفق قاعدتها الثابتة والتاريخية أي المتاجرة حتى بأكفان الأموات،
فيتم تهديد المنتفضين بأرزاقهم. والخبث هنا يكمن بزرع الخوف والرعب من
الفوضى، التي يمكن أن تنتج عن فقدان النقد.
لا تزال السلطة تصر على أساليبها التقليدية، كاللعب على الأوتار الطائفية والمذهبية. بل ولا تزال الخشية من اللجوء إلى الأساليب الأمنية. لكن الناس والشبان أثبتوا حتى الآن وعياً متقدماً سبق السلطة وخططها بأشواط وخطوات. والأخطر إن اللعبة الأمنية التي تحاولها السلطة هي فرض الفوضى المعيشية، لتصطدم الناس مع بعضها البعض، تماماً مثلما كانت المحاولات لافتعال اصطدام الناس ببعضهم البعض على خلفية قطع الطرقات.
هذا وتستمر قوى السلطة في شراء الوقت، للبحث عن مخرج، بعد وضع
سقف لا تريد التنازل عنه وهو تشكيل حكومة سياسية بدلاً من حكومة
التكنوقراط. وهذا يعني أن المعالجات التي يتم البحث عنها هي معالجات سياسية
لأزمة اقتصادية اجتماعية فجّرت المجتمع بكل تلاوينه.
الرؤية الفرنسية
وصل
الوضع الآن إلى حال استعصاء لا تُحتمل. الطرفان غير مستعدين للتنازل، وليس
هناك أي اهتمام دولي مباشر للعمل على حلّ الأزمة. الموقف الوحيد الذي
سيترجم عملياً هو وصول وفد فرنسي إلى بيروت يوم الثلاثاء المقبل، يضم رئيس
دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو، للبحث في إمكانية
إيجاد حلّ للمعضلة السياسية والاقتصادية التي تنذر بانفجار كبير. يأتي
التحرك الفرنسي بعد سلسلة اتصالات أجرتها باريس مع بعض الدول المعنية
بالشأن اللبناني، من بينها واشنطن، والرياض. ومن المعروف أن باريس تتمسك
بحكومة تصفها بالإصلاحية، تكون تكنوسياسية، غايتها العمل على إخراج البلاد
من أزمتها، ولا تريد استبعاد أي طرف سياسي من الحكومة بما فيهم حزب الله.
وحسب المعلومات، فإن باريس تعارض توجّه واشنطن والرياض المؤيد لتشكيل حكومة خالية من حزب الله. كما ترفض منطق المواجهة مع الحزب، وهي تتعاطى مع موازين القوى القائمة، أي تتقبل بواقعية قوة حزب الله وقدرته على التأثير الكامل في المجريات السياسية في لبنان، بتحالفه مع رئيسي الجمهورية والحكومة. ومن المعروف أن الاتصالات الفرنسية مستمرة مع حزب الله.
تحاول فرنسا تعزيز دورها في لبنان وحضورها في المنطقة،
انطلاقاً من الساحة اللبنانية. وهي التي رعت التسوية عام 2016 بالتوافق مع
الأميركيين، وهي التي جددتها بعد استقالة الحريري من الرياض، وحريصة عليها
كما حريصة على العلاقة مع إيران، وعلى الاتفاق النووي معها.
تزييف الواقع
حتى
الآن لا تزال باريس تتمسك بالحريري رئيساً للحكومة، بمشاركة كل القوى
السياسية فيها، وهذا ما حاولت نقله إلى عدد من العواصم. لم يتأخر الساسة
اللبنانيون عن طلب النجدة من “الأم الحنون”. وحسب المعلومات، فقد جرت
اتصالات عديدة بين بيروت والإيليزيه، لعلّ الرئيس ايمانويل ماكرون يتدخل،
كما فعل إبان استقالة الحريري من الرياض.
وحسب ما تفيد المعلومات، فإن بعض القوى اللبنانية حاولت تسويق
تصوراتها لدى فرنسا، عبر الادعاء بأن التحركات قد انتهت واثبتت فشلها. وأن
التظاهرات لم تعد قائمة. بل أن الساحات فرغت من المتظاهرين. وبالتالي فإن
المشروع “المؤامراتي” قد فشل، وانتصرت قوى السلطة. لم تهضم باريس هذه
الروايات. ولذلك ترسل موفدها إلى بيروت للوقوف على حقيقة الوضع، والمتابعة
بشكل حثيث لما يجري. وحسب ما تكشف المعلومات، فإن تأثير حزب الله والتيار
الوطني الحر على الفرنسيين ظاهر بقوة.
كي لا تُسحق الانتفاضة
حتى
الآن لا يمكن وصف الزيارة الفرنسية بالمبادرة، إنما تهدف لاستطلاع كل
الحقائق والوقائع، فيما تراهن السلطة على ضعف التحركات والاحتجاجات من الآن
حتى الثلاثاء، موعد وصول الموفد الفرنسي. ولذلك، يبقى الرهان الأساسي
والضروري هو استمرار التحركات والتظاهرات لتقديم صورة حقيقية عن الوضع،
بدلاً من التزييف الذي تحاول السلطة تقديمه. يبقى الخوف، من أن تنجح فرنسا
في إعادة ترتيب التسوية السياسية وفق منطق موازين القوى، وبالتالي تكرار
سيناريو ما بعد استقالة الحريري من الرياض، بما يرضي أركان السلطة. وهم
يطمعون بذلك انطلاقاً من عدم اهتمام الأميركيين بالوضع اللبناني، وتسليمهم
الأمر للفرنسيين، تماماً كما تخلى الأميركيون عن الأكراد وعن الأتراك وعن
السعوديين في الفترات السابقة.
لا شك أن حزب الله ورئيس الجمهورية يراهنان ليس فقط على التدخل الفرنسي، بل على تدخل روسي أيضاً يدعم عون وحزب الله وبقائهما في السلطة. وبالتالي، تُسحق طموحات اللبنانيين في لعبة الأمم. الأمر الوحيد القادر على إفشال رهانات أركان السلطة هو استمرار الناس بتحركاتهم بزخم، وبلا يأس أو خوف أو وجل.