عون لن يتراجع وباسيل لا يتنازل وحزب الله يتشدد
يستمر أهل السلطة التي اختصرها “عهد” ميشال عون وصهره وتلميذه
جبران باسيل، كواجهةٍ لحزب الله، في ممارسة استدراج الشارع اللبناني إلى
الفوضى.
الرئيس والتخويف
ففي مقابلته التلفزيونية –
الفضيحة، أمر عون المتظاهرين بالخروج من الشوارع والساحات، وقال لهم: لن
تتمكنوا من إزاحتي أو إسقاطي. وفي حال استمراركم في تحركاتكم، ستصطدمون
بالناس. ومَثَلُ رئيس جمهورية القسوة والعناد والتخويف عن الناس الذين يريد
لهم الصدام مع المتظاهرين، ما حصل في الشويفات وجل الديب.
وناس التظاهرات الذين يقصدهم عون هم ناس الشارع المسيحي. فهو
وباسيله لا يريان في ما يجري، إلا تحركات مسيحية حزبية تنال من سلطتهما.
فالغريزة العونية الثأرية لا تزال مقيمة في لحظة حرب الإلغاء، وحولت ما
سمته حرب التحرير إلى عداوة ثأرية من الحريرية السياسية. لكن المحاولات
العونية لتوتير الشارع، استطاع المتظاهرون تجاوزها، واستمروا على سلميتهم
وذكائهم في عدم الوقوع في الفخّ السلطوي.
حروبه السلطوية
في
العام 1989 رفض رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون، تسليم السلطة. لم يعترف
باتفاق الطائف، واستعصى في قصر بعبدا، وخاض حربين، منقلاً مدافعه عشوائياً
(مثلما يتكلم حين يغضب) بين جبهتين، في سبيل البقاء في القصر الرئاسي،
محاولاً تحسين شروطه للوصول إلى اتفاق مع حافظ الأسد يبقيه في القصر رئيساً
“منتخباً”. كان يرى نفسه الزعيم المسيحي الأقوى، وصاحب الشرعية، فلا يتخيل
نفسه خارج السلطة والقصر الرئاسي. وجمح به خياله النرجسي، فتوسل الحرب
سبيلاً إلى معشوقته، أيام كانت حروب لبنان قد رمت لبنان في قاع حفرة مظلمة،
فدمّرت حروبه ما تبقى من المجتمع المسيحي، ومن الشرعية، ولم يسلّم القصر
إلا مدمراً وغادر إلى المنفى.
الثمن الباهظ
هذا شطر من
طبيعة عون، المعروف بالعناد مهما أدى إلى ويلات ودماء، ومهما اضطرته الظروف
إلى القفز من الشواهق. هو يحبّ لعبة حافة الهاوية (على طريقة
الديكتاتوريين). وهذه اللعبة خذلته مرة في العام 1990، ولكنها أعادت إليه
الكثير من الاعتبارات في العام 2005 والعام 2009 ، وصولاً إلى رئاسة
الجمهورية.
عون الرئيس اليوم بالتأكيد لن يكون مستعداً للتنازل، أو
التراجع. وخصوصاً أنه يرى في كل ما يجري، عملية منظمة لإنهاء عهده. فيما لم
يعد العهد في حاجة إلى من ينهيه. فما جرى ردّاً على موقفه كان أبلغ
تعبيرعن دخول البلد في نفق مظلم، سيدفع عون وباسيل ولبنان كله ثمنه، إضافة
إلى كل القوى السياسية الأخرى.
الحليف الآمر
وخلف عون
وتعنّته، يقف حليف معروف عنه عدم التراجع. وهو وضع سقفاً واضحاً لتحركات
اللبنانيين: العهد ممنوع من السقوط. وإبعاد حزب الله عن الحكومة ممنوع.
ولذلك يصرون على تشكيل حكومة تكنو سياسية، لأن الحزب يرفض الخروج من
المعادلة، وإهدار ما حققه من انتصارات لصالح المتظاهرين، خصوصاً أنه ينظر
إلى ما يجري باعتباره مؤامرة لتفريغ انتصاراته. ولذلك يفرض الحليفان
شروطهما السياسية للخروج من الأزمة: رفض تشكيل حكومة تكنوقراط تستجيب لبعض
الأجواء الدولية.
لذلك أنهى عون “مفاعيل” جولة الموفد الفرنسي قبل أن تبدأ، معتبراً أن ليس من مبادرة فرنسية واضحة. كان يعلم أن الفرنسيين يسعون إلى البحث عن توافق على تشكيل حكومة ترضي المتظاهرين، وتقدّم لهم تنازلات جدية. سلوك عون مع الموفد الفرنسي لم يختلف عن سلوكه مع الأخضر الإبراهيمي خلال مفاوضاته معه في القصر الجمهوري لتسليم السلطة والقبول باتفاق الطائف عام 1990. فكان عون يقول حينها: “رح يجي لعندي أخضر ورح رجّعو يابس”. في إشارة إلى عناده وعدم رضوخه للضغوط.
لم يخرج عون عن الالتزام بالخط الذي رسمه نصر الله والذي حدد
معالم المرحلة المقبلة، متشدداً وذاهباً نحو التصعيد، وكأن لا شيء يدفعه
إلى التراجع. وهذا جزء من طبيعة عون وشخصيته العنيدة، ولو بقي وحيداً. ولكن
عون وباسيل لا يراهنان على غير وجودهما في السلطة. ولذلك لا مجال
لتنازلهما، خصوصاً أنهما لا يتهيبان المشهد الجماهيري، فكيف إذا كان خلفهما
جماهير مدربة مطواعة على التحشيد الإلهي؟!
عقل تخريبيلماذا
أجريت تلك المقابلة مع عون؟ بالتأكيد أن من اقترحها إما ضيق البصيرة، وإما
صاحب عقل تخريبي. منذ انطلاق الانتفاضة خرج عون بثلاثة مواقف: أعطى
انطباعاً سيئاً بسبب المونتاج والتسجيل. وفي ما بعد خرج بإطلالة ثانية
واقفاً، وكانت أيضاً مسجّلة، فلم تعط أي انطباع جيد، بل كثرت التساؤلات حول
الوقفة وإشارات اليدين والأصابع. وأخيراً جاءت المقابلة – الفضيحة
المباشرة، ففضحت الكوامن، وأثبتت أن الطبع يغلب التطبع. الرسالة التي أريد
إيصالها هي أن الرئيس في وضع جيد وممتاز، لكنهم لم ينتبهوا إلى أنه شن
هجوماً على الانتفاضة، وطرح كل ما يعارضه الحراك.
من الواضح أن عون بقي على تشبثه وتعاليه على كل القوى
السياسية، شريكته في السلطة، وعلى الناس الذين وضع نفسه في مواجهتهم.
والأخطر أنه في الوقت الذي كان المنتفضون يحيلون المشكلة إلى جبران باسيل،
أصر على أن يكون هو الصدر الذي يحتضن جبران ويتلقى عنه الضربات. ولذلك دافع
عن فكرة وجوده في الحكومة.
باسيل – الحريري
وكانت
الأحداث على الأرض في واد، وسعد الحريري وجبران باسيل في واد آخر. يلتقيان
ويتباحثان ويتفقان، ومن ثم يتبادلان المناورات، ويناوران على غيرهما وعلى
الناس. قبيل كلمة رئيس الجمهورية كان الحريري قد أعطى إشارات إيجابية حول
موافقته على السير بتشكيل حكومة، طالما أن الأوضاع تتجه إلى بعض
الإيجابيات. لكنه بعد كلمة عون التي استفزت الشارع، وانفلات الأمور من
عقالها، إضافة إلى رسم عون الخط البياني للحكومة الذي يجب على الحريري أن
يلتزم به، أحجم الحريري عن القبول، وتراجع عن الموافقة.
ووسط هذه المناورات، كان باسيل يعلن عن إيجابية قد تحققت على صعيد تشكيل الحكومة، فيما أجواء التيار الوطني كانت تعتبر أن الحريري اعتذر عن التكليف.
هذا شيء من الهذيان والجنون، ولا ينفصل عن الجنون الذي مارسته عناصر السلطة والتابعين لها على الأرض. وكأن الحريري كُلّف كي يعتذر، بينما هو لم يكلّف، ولم تجر الاستشارات. هذا المنطق يؤكد أن تفكير ومنطق رئيس الجمهورية وتياره كله لا يزال قبل العام 1989. أي قبل الاستشارات النيابية التي تلزم تكليف رئيس الحكومة.
في المقابل استمر الحريري على مناوراته، واستند إلى هذه الثغرة في عدم إعطاء موقف حاسم حول استعداده لتشكيل الحكومة، أو إصراره على المغادرة. ما يعني أنه لا يزال يستثمر في الوقت، ويبحث عن فرص تتوفر ليعود رئيساً مكلفاً لحكومة لن يؤلفها. فيما يعرف، حسب ما تؤكد المصادر، أن باسيل وفق “شائعات”، مستعد للخروج من أي تشكيلة حكومية جديدة. وفي الحقيقة هو يلف ويداور، وما حكي عن استبعاده مجرّد أوهام. فباسيل بعيد تكليف الرئيس كان سيعمل على فرض نفسه وزيراً. الأمر الذي ظهر في مقابلة عون، عندما اعتبر أنه ليس من حق أحد وضع فيتو على باسيل كرئيس أكبر تكتل نيابي.
المدن