الثورة غير موجودة: باسيل يؤلّف “حكومته”
للأسف، يقف لبنان على كف جبران باسيل. رغم كل اهتماماته وانشغالاته الكثيرة، يجد متّسعاً من الوقت ليعمل “رئيس لجنة فاحصة” للانتحاريين الراغبين في دخول جنّة رئاسة الحكومة.
منذ تقديم سعد الحريري لاستقالته، بدأ الوزير جبران باسيل
سلسلة لقاءات مع شخصيات سنّية تتوق لتنعم بلقب “دولة الرئيس”. ربما يعرف
هؤلاء، في قرارة أنفسهم، أن أكثرهم سذاجة وخفة هو أوفرهم حظاً في التكليف،
نظراً لنوع الأسئلة والمتطلبات. وحده بهيج طبارة كان خارج هذا التصنيف، على
الرغم من قبوله بالمهمة وفق شروطه، وليس وفق ابتداعات وابتكارات رئيس
التيار الوطني الحرّ، الشبيهة ببدعة “منتشرين لا مغتربين”. وضع طبارة شروطه
التي لم تناسب باسيل ولا الحريري، فتنّحى جانباً.
الذمّيون السياسيون
ما
عداه، الجميع يتزاحم إلى إرضاء السلطان، متنازلين عن شرف مهمة “التأليف”
مرتضين شرط باسيل (وعون وحزب الله): “لا تؤلّف ولا تختار، نحن من يؤلف
عنك”. لا مشكلة لهؤلاء بذلك، هم يريدون فحسب دخول السراي، والإمساك بقلم
التوقيع وختم “دولة الرئيس”، وإن لم يمتلك من قرار هذه الدولة ترف التوقيع
ولو على ورقة بيضاء.
يتزاحم المرشحون فيما بينهم، على من يتقن أكثر فنون الإرضاء والبهلوانيات وادعاء الإنجازات. غايتهم الوحيدة تقديم فروض “ذميتهم السياسية” لصاحب القوة الذي يفصّل ويُلبس. ولا مشكلة لديهم إذا ما كان اللبوس على شبهة التعرية إلى حد الصقيع.
المشكلة الوحيدة التي لا تزال تعترض طريق باسيل إلى “صناعة
رؤساء الوزراء” هي حاجة حلفائه، بعقلانيتهم النسبية وواقعيتهم، إلى الغطاء
السنّي. وضرورة الحصول على موافقة “سنّية” تصويتاً ومشاركة في الحكومة
العتيدة. إنها الحاجة إلى سعد الحريري. وليس وحيداً، بل معه “رؤساء الحكومة
السابقين”. فخروجه عن اجتماعهم وعن توافقهم ستؤدي إلى تعريته. فالزمن
تغيّر ولم يعد الحريري قادراً على التسليم بكل شيء، كما فعل إبان التسوية
الرئاسية، وتمكن حينها من الحفاظ على رمزيته وبعضاً من شعبيته وحضوره
السياسي. وهو يعلم أن باسيل المدعوم من رئيس الجمهورية، يريد انتزاع كل
الصلاحيات، وإعادة موقع رئيس الحكومة إلى ما قبل الطائف، على نحو لا طاقة
للحريري ولا لأحد آخر على تحمّل ذلك. وحتّى عندما غضّ “زعيم السنّة” طرفه
عن بعض التفاصيل، وجد نفسه يدفع الأثمان، فيما الآن حانت الفرصة لتصحيح
الأخطاء ربما، فيعيد الحريري بعضاً من المهابة إلى مكانته.
السخط والمسؤولية
يستند
الحريري في شروطه إلى وضع شعبي ضاغط، وربما وضع دولي أيضاً. هو الذي يعيق
تشكيل حكومة باسيل وحزب الله، اللذين يعتبران أن الحريري يبدي إيجابية،
لكنه سرعان ما يتراجع ويفرض المزيد من الشروط. وكأن ما يجري مدروس من أجل
عرقلة تشكيل حكومة يشتهيها محور الممانعة. فيزداد السخط على “شريك
التسوية”، وتغضب بعبدا من بيت الوسط. فيسارع “الوزير الأول” إلى عقد المزيد
من اللقاءات مع شخصيات مرشّحة للمهمة الحكومية، وتتسرّب الأجواء عن قرب
الاتفاق والدعوة إلى الاستشارات، وسط حملة ضد الحريري بوصفه المعرقل
والمؤخر والمتناقض، الذي يوافق تارة على حكومة تكنوسياسية ويشترطها طوراً
تكنوقراطية، أو يطالب بوزارات محددة.
الواضح أن المسؤولية الأكبر تقع على بعبدا ووزيرها المدلل، الذي لا يرى ما يجري في الشارع إلا باعتباره موجهاً إلى الحريري وسياسته الاقتصادية، متناسياً أنه شريكه وصاحب الثلث المعطّل منذ عشر سنوات وماسك أهم الوزارات. لذلك يستمرّ باسيل بفرض إملاءاته. فمع بهيج طبارة طالب بالحصول على كل الوزراء المسيحيين، واشترط تسمية الوزراء بنفسه، ومن بينهم الوزيرة ندى البستاني وغسان عطا الله، إلى جانب عودته المظفّرة هو إلى قلب الحكومة. وفي المفاوضات مع سمير الخطيب تستمر الشروط ذاتها.
باسيل يهدد الحريري
مساء الجمعة، أعطى باسيل مهلة 24 ساعة للحريري للموافقة على السير بسمير الخطيب، وإلا فإن بعبدا ستدعو لاستشارات نيابية يوم الإثنين، وليتم تكليف من يحصل على النسبة الأكبر من الأصوات النيابية. لم يكن هذا التهديد الأول للحريري بل الثالث. وقد تدخل حزب الله مرتين مع رئيس الجمهورية لتأجيل الاستشارات، بانتظار التوافق مع رئيس الحكومة المستقيل. حالياً، يصرّ باسيل على إجراء الاستشارات السريعة لتشكيل الحكومة. وهذا جيد وإيجابي، لكنه يفرض المزيد من الشروط. وهي عدا كامل الحصة المسيحية التي يطالب بها، يشترط تسمية ثلاثة وزراء سياسيين للتيار الوطني الحرّ، على أن يكون هو من بينهم، والحصول على وزارتين سياديتين واحدة لسياسي (له على الأرجح) كالخارجية أو الداخلية، والأخرى (كوزارة الدفاع) يسمّي لها هو وزيراً تكنوقراطياً. المشكلة ليست فقط بالحصص والحقائب، بل هي شخص جبران باسيل، الذي منذ البداية بات استبعاده شرطاً لاستبعاد الحريري من رئاسة الحكومة. أي معادلة سعد مقابل جبران. ليتبين فيما بعد أن كل الإيحاءات التي قُّدّمت من التيار باستعداده للتخلي عن باسيل كانت أوهاماً. وعندما سُئل رئيس الجمهورية عن الموضوع، رفض بشكل قاطع التضحية بباسيل، خصوصاً بعد الانتفاضة الشعبية، كي لا يتم تكريس صورته كمذنب تحيط به شبهات الفساد أو سمة الفاشل. فذلك يقضي على مستقبله السياسي. وهذا ما لا يرضى به الرئيس عون مهما كلّف الأمر.
المدن