حال سعد الحريري وشقيقه الأكبر: من بيت أخي ضُرِبتُ
في الواقع الاجتماعي السياسي المبسّط للسنّة، تاريخياً، هم لا
يجتمعون على عقيدة ولا تحشرهم أيديولوجيا موحدة، عدا انتسابهم إلى عالم
الإسلام. وهذا، بخلاف الحال عند غيرهم من القوى الطائفية والمذهبية أو
الإثنية والعرقية. ليسوا أصحاب “قضية” كالحال عند الشيعة، أو الموارنة أو
الأرمن مثلاً. قضيتهم المركزية في التاريخ الحديث كانت فلسطين. لكن على
الأغلب بوصفها قضية قومية وليست قضية “السنّة”. أما الباب البديهي والمبسط
للولوج إلى الصراعات والتشرذم بين السنّة، فيبقى في الخلافات الناشبة عن
تضارب المصالح فيما بينهم. وهذا كلام بسيط يتداوله الناس في لبنان مثلاً،
عند الحديث عن حالة التنافس بين السياسيين السنّة على رئاسة الحكومة وعلى
الزعامة وعلى المكانة والوجاهة. وحتى في ذلك، هم يتشبّهون بالموارنة
ونزاعاتهم على الزعامة المسيحية ورئاسة الجمهورية، والتي تأخذ طابع “معركة
الوجود المسيحي”!
الاعتدال والتصلب
عدم
الاجتماع على قضية واحدة، هو الذي يدخل الإحباط إلى نفوس “أهل السنّة”. من
يخسر يعبّر عن شعوره بالإحباط، بينما من يكسب السلطة يدافع عنها وعن
خياراته وينفي تلك الحالة. وهم بذلك، يضعون أنفسهم عرضة لتلاعب الآخرين بهم
وابتزازهم. ولم يعد الأمر مقتصراً على الطائفة ككل، بل أضحى داخل البيت
الواحد وبين الأشقاء، كحالة اللعب المزمنة من قبل قوى متعددة، على وتر
الخلاف والنزاع بين سعد الحريري وبهاء الحريري. أبواب “المنافسة” هذه تبقى
مشرّعة، طالما أن أقصى الطموحات تُختزل في الوصول إلى كرسي السلطة.
ووفق هذه المعادلة، في مواجهة صراعات أكبر، أصبح السنّة بين
خيارين. الاعتدال الذي يُفسر لبنانياً بمعناه السيء أي تقديم التنازلات
للفوز بدعم الخصوم لقاء منحهم ما يريدونه. أو التصلب فيتحولون إلى تهمة
الإرهابيين أو على الاقل إلى مشبوهين مرتكبين لأفظع الموبقات والفسائد. وهي
الحالة التي يشرحها واقع الحريري أيضاً، الذي كان يصفه التيار الوطني
الحرّ ما قبل التسوية الرئاسية بأنه “داعش” الذي يرتدي ربطة عنق، ويبرم
بحقه أحكام الفساد والمناهبة الدولتية التي أوصلت إلى الانهيار. بعد
التسوية، وتنازل الحريري عن كل ثوابته، سحب كتاب “الإبراء المستحيل” من
التداول، ولم يعد الرجل “داعشياً بكرافات”، إنما أصبح حاجة وطنية لركائز
العهد العوني “القوي”، والتي تقوم على ثلاثية متكاملة بينه وبين ميشال عون
وحزب الله.
المكائد وأهل البيت
منذ توليه
وراثة مسيرة رفيق الحريري وثورة 14 آذار، كان سعد الحريري عرضة لمكائد
الابتزاز. في عز صراعه مع حزب الله، كان يصوَّب على بيته الداخلي، فتارة
تنمو أخبار عن خلافه مع نازك الحريري، وانها لا توافق على خياره ومسيرته
التي (حسب الحزب طبعاً) لا تتفق مع مسيرة رفيق الحريري، الحريص على العلاقة
الجيدة والممتازة بالحزب. استخدمت الآلة الدعائية لقوى 8 آذار اللعب على
الوتر العائلي بالخلاف بين الإبن وزوجة الأب. كان ذلك في عامي 2006 و2007.
وفي الفترة نفسها أيضاً، كان اللعب على “أحقية” القيادة بين سعد وشقيقه
بهاء، بوصف الأخير (من قبل من يدورون في فلك حزب الله) “أنه صاحب خيار
المقاومة، ولا يوافق على مؤامرات سعد ضدها”. لم تكن لعبة شائعات والتحريض
وزرع الشقاق بعيدة عن العمة بهية الحريري أيضاً، على ما كان يتم بثه في
العام 2008 عن خلاف بين سعد وبينها، وأيضاً من قبل الجوقة ذاتها.
استخدمت التباينات العائلية لإضعاف الحريري، وضعضعة الثقة بنفسه وبمن حواليه. ساهم في ذلك أبناء بيته المتنافسين فيما بينهم على الثروة والسلطة والقيادة السياسية. بعد انقلاب الآية بفعل التسوية الرئاسية وذهابه إلى التفاهم مع خصومه، حزب الله والتيار الوطني الحرّ، تحولت العائلة والبيت إلى مادة للابتزاز من حلفائه القدامى، غير الراضين عن مسيرته الجديدة. ففي فترة “استقالته” من السعودية، برز طيف بهاء الحريري مبدياً الاستعداد لإكمال المسيرة عن شقيقه سعد. لم يكن التسويق لبهاء يومها يأتي من عند حزب الله المتمسك بسعد. لقد تحول الشقيق الأكبر بنظر الحزب إلى “صاحب المؤامرة”، بخلاف ما كان عليه سابقاً.
أُجهضت المحاولة برفض “العائلة” وتيار المستقبل والشخصيات
السياسية السنّية المجتمعة والوازنة، كما موقف العمّة إلى جانب سعد، بوجه
الطامح. مع ثورة 17 تشرين، وشمولها عموم السنّة الذين كانوا من أكثر
المتحمسين لها، بدأت الأخبار تتوارد عن بهاء الحريري مجدداً، و”تأييده
للثورة ضد حكومة سعد”. صوره المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي مزينة
بالعلم اللبناني وبعض العبارات المتضامنة مع التظاهرات، بدت وكأنها حركة
صامتة تبحث عن ثغرة للدخول. وعلى هذا المنوال، عاد وانفتح الصراع العائلي
داخل البيت الواحد، ثم ظهرت مع الانتفاضة الشعبية الساحة السنية مشرعة
الأبواب على مشاريع متضاربة، وتتلاعب فيها قوى وجهات متعددة.
عند الضريح
في
إحدى محطات الخلاف ما بعد التسوية بين الحريري وعون وباسيل، وخصوصاً على
التوجهات حول العلاقة مع سوريا، برزت مادة ابتزاز جديدة. رُمي اسم بهاء في
التداول العام، كرجل مقاولات (وسياسة!) جيد الصلات بالسعودية والإمارات،
ويستعد لزيارة سوريا وإقامة مشاريع إعمارية هناك. هكذا تم ابتزاز الحريري
بشقيقه، لدفعه إلى فتح الخطوط مع دمشق، كي لا يسبقه شقيقه الأكبر إليها.
وبعد انتفاضة 17 تشرين، وفي عز الخلاف على رئاسة الحكومة وتشكيلتها مع عون
وباسيل، بدأت الأخبار تتواتر عن استعداد بهاء للعودة، وتكليفه برئاسة
الحكومة. اللعبة نفسها والتسخيف ذاته المستمران مجدداً.
الظن عند تيار المستقبل، منذ الأيام الأولى للانتفاضة وما جرى خصوصاً في طرابلس، أنه موجه بشكل مركّز لاستهداف الحريري، وإظهار انتفاضة الجمهور السنّي وكأنها حصراً ضده، فاقم من وساوس سعد الحريري. والمشهد الأفظع والأفضح، كان على ضريح رفيق الحريري في ذكرى اغتياله الخامسة عشرة. كان سعد يخطب معلناً اهتمامه بالبيت الداخلي، سارداً ما تعرض له من خيانات وطعنات، وكثرة الوصوليين والانتهازيين.. وفي اللحظة نفسها كان آخرون يريدون للذكرى أن تكون لهم وليست له. وعليه كانت الدعوات والبيانات والمواقف المتضاربة بشأن بهاء أو من قبله.
حدث نفي للاتهامات من قبل بهاء، من دون ممانعته أن يكون هناك ناس تعبّر عن خيارها المعارض لسعد بذكرى رفيق الحريري. وكأن الرجل يغطي المتظاهرين الذين رأى فيهم شقيقه تشويشاً عليه. لم يعزف بيان بهاء عن توجيه النقد إلى سعد، في معرض حديثه عن الاغتيال المستمر لوالده ولما آمن به، أو في الحديث عن انتفاضة اللبنانيين ضد الفساد والذين طالبوا برحيل الحكومة أو المنظومة الفاسدة وأسيادها وأعوانها.
هذه المرة، ليست شائعات ولا مجرد حزازات.. الخلاف واضح وعلني، على نحو يضيف إلى تصدعات تيار المستقبل ومكانة زعيمه شقوقاً تهدد سلامة البيت واستقراره
المدن