فضيحة قضائية إنقاذاً لباسيل.. الفاخوري سيخاطبكم من واشنطن
كثّفت المراجع القضائية تحركاتها، لمحاولة احتواء تداعيات الحكم “الفضيحة”، الذي أصدرته المحكمة العسكرية الاثنين، وقضى بإعلان براءة العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري من الجرائم الجنائية الخطيرة المنسوبة إليه، وبإطلاق سراحه فوراً بعد ستة أشهر على توقيفه لدى وصوله من الولايات المتحدة الأميركية إلى بيروت، حين أمر النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، بتقديم طعن بهذا الحكم أمام محكمة التمييز العسكرية وإعادة محاكمة الفاخوري من جديد.
توقيت مريب
الحكم الذي
أصدرته المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن حسين عبد الله،
وبإجماع أعضائها الخمسة، أحدث خضّة في الأوساط السياسية والقضائية
والشعبية، خصوصاً وأن توقيت صدور الحكم جاء مريباً، باعتبار أن المحكمة
العسكرية عقدت جلسة طارئة للمحاكمة، رغم القرار الصادر عن وزارة العدل
ومجلس القضاء الأعلى بتعليق كافة جلسات المحاكمة والمراجعات القضائية، بسبب
“حالة التعبئة” التي اتخذتها الحكومة، لتطويق وباء “كورونا”، وأن الحكم
جاء قبل شهر تماماً من موعد المحاكمة العلنية المحددة للفاخوري في 16 أبريل
(نيسان) المقبل. ما يعني أن القرار ليس إلّا ترجمة لـ”صفقة سياسية”، وهو
أعدّ مسبقاً بعد دراسة متأنية قبل إعلانه رسمياً يوم الاثنين.
قرارات موجعة
مصادر
متابعة لهذا الملفّ، كشفت لـ”المدن” أن “الحكم المفاجئ سواء في توقيته أو
مضمونه، يعكس مدى الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية على
لبنان، سواء بالاتصالات التي أجراها وزير الخارجية مايك بومبيو بمسؤولين
لبنانيين، أو بالرسائل الشديدة اللهجة التي نقلتها السفيرة الأميركية في
بيروت إلى القيادات السياسية، وأبلغتهم بإمكانية لجوء الإدارة الأميركية
إلى قرارات موجعة تطال شخصيات لبنانية، في حال لم تسارع السلطات اللبنانية
في الافراج عن الفاخوري”. ولم تخف المصادر بأن “ملفّ الفاخوري تصدّر
أولويات الرئيس دونالد ترامب عشية الحملة الانتخابية التي يخوضها لتجديد
ولايته في البيت الأبيض”.
حيثيات سياسية أم قانونية؟
يكفي
مراجعة مضامين الحكم والمواد القانونية التي استند إليها، للتثبّت من أن
حيثيات الحكم سياسية أكثر مما هي قانونية. إذ أن المحكمة العسكرية قررت كفّ
التعقبات عن الفاخوري من الجرائم المنسوبة إليه في القرار الاتهامي،
المتمثلة بـ “خطف مواطنين لبنانيين وحجز حرياتهم وتعذيبهم، داخل معتقل
الخيام الذي كانت تديره إسرائيل قبل تحرير جنوب لبنان في العام 2000، وقتل
ومحاولة قتل مواطنين”. وهي جرائم تصل عقوباتها حدّ الإعدام. وقد عللت
المحكمة تبرئة هذا العميل، بأن هذه الجرائم “سقطت بمرور الزمن العشري (مرور
أكثر من عشر سنوات على ارتكابها)، ولم يعد ثمة داعٍ إلى الاستمرار
بتوقيفه”.
عقوبات داهمة
لا يمكن الفصل بين
مسوغات الحكم، والضغوط التي مارسها الأميركيون على رئيس الجمهورية ميشال
عون وصهره النائب جبران باسيل. ووفق المعطيات المتوفرة، فإن الوزير جبران
باسيل، كثّف اتصالاته ولقاءاته مع قيادات “حزب الله” وكذلك رئيس الجمهورية
ميشال عون عبر مستشاره الوزير السابق سليم جريصاتي، لتقريب موعد محاكمة
الفاخوري، وتبرئته، لتلافي عقوبات داهمة ستطال حلفاء الحزب، وعلى رأسهم
باسيل وعدد من قيادات التيار الوطني الحرّ ومقربين من الرئيس عون، وقد لا
تستثني حلفاء الحزب من الطائفة الشيعية (في إشارة إلى رئيس مجلس النواب
نبيه برّي)، لما لهذه العقوبات من آثار سياسية مدمّرة على هذا الفريق الذي
يقود “حكومة الإنقاذ”، التي نصّب على رأسها حسان دياب.
“حزب الله” والضوء الأخضر
وتشدد
المصادر على “استحالة صدور حكم بهذا التوصيف، وبما له من وقع ثقيل على
القضاء وعلى القوى السياسية وما له أثمان شعبية، ما لم يكن حظي بمباركة
“حزب الله” أو غضّ الطرف عنه”. ولا تستبعد المصادر أن يكون الحزب، الذي
يحتفظ بالوكالة الحصرية للمقاومة، ويتعهّد دائماً بتعقب العملاء وعدم
التساهل معهم، “أمر بتمرير الضوء الأخضر إلى المحكمة العسكرية الخاضعة
كلياً لسلطته، عبر رئيس مجلس النواب أو مقرّبين منه”. ولم تجد المصادر في
البيان الشديد اللهجة الصادر عن “حزب الله” منتصف ليل الاثنين ــ الثلاثاء،
وبعد ست ساعات على إعلان “الحكم الفضيحة” ونشره، إلّا “محاولة لحفظ ماء
الوجه، وتبرئة نفسه من تبعاته”.
سابقة فايز كرم
بمراجعة
بسيطة لنتائج “التسوية” التي أفضت إلى إعادة الفاخوري إلى الحرية، يمكن
القول “ما اشبه اليوم بالأمس”، فهذه الحالة ليست الأولى من نوعها التي يبرم
فيها “حزب الله” صفقة من هذا النوع. والفاخوري ليس حالة فريدة. قصّته تعيد
ذاكرة اللبنانيين إلى قضية العميل فايز كرم، الذي جرت محاكمته بتهمة
التجسس لصالح العدو الإسرائيلي، وكان يسمّى اليد اليمنى للعماد ميشال عون،
بعد عودة الأخير من منفاه في باريس، ودائماً ما شكّل حلقة الوصل بينه وبين
قيادات “حزب الله”، خصوصاً بعد توقيع ورقة تفاهم مار مخايل. إذ أنه رغم
خطورة التهم الموجهة إلى فايز كرم، والذي كُلّف من الموساد الإسرائيلي
بتوطيد العلاقة مع أبرز قيادات الحزب، وفي مقدمهم نائب الأمين العام الشيخ
نعيم قاسم، فإن كرم نال حكماً مخففاً للغاية، قضى بسجنه سنتين فقط. وهذا
الحكم صادقت عليه محكمة التمييز العسكرية. ورغم ذلك، لاذ الحزب بصمت أهل
القبور، ولم يكلّف نفسه الردّ يومذاك، للردّ على حليفه العماد عون، الذي
جنّد كل طاقمه الحزبي وماكيناته الإعلامية لمهاجمة رئيس فرع المعلومات في
قوى الأمن الداخلي اللواء الشهيد وسام الحسن، لتجرؤ الأخير على كشف عمالة
فايز كرم وتوقيفه وتقديم الأدلة على تجسسه لصالح الموساد.
مذكرة الطعن
بالعودة
إلى المعالجات القانونية لتبعات الحكم، فقد تقدّم صباح الثلاثاء مفوض
الحكومة لدى محكمة التمييز العسكرية القاضي غسان خوري، وبناء على توجيهات
القاضي غسان عويدات، بمذكرة إلى محكمة التمييز العسكرية، طلب فيها نقض
الحكم الصادر بحق الفاخوري، وإصدار مذكرة توقيف بحقه، واعادة محاكمته من
جديد بالجرائم المنسوبة إليه، وقد سُجّلت هذه المذكرة لدى قلم محكمة
التمييز العسكرية.
واستند القاضي الخوري في طلب النقض، إلى ما اعتبره
خللاً في حيثيات حكم المحكمة العسكرية، التي اعتبرت أنّ “الجرائم التي
ارتكبها الفاخوري آنية، وسقطت بمرور الزمن العشري”. وشدد على أن الجرائم
المذكورة “لا تزال متمادية وهي لا تسقط بمرور الزمن”. ولفت الخوري إلى أن
“الجرائم التي ارتكبها الفاخوري مصنّفة جرائم ضدّ الإنسانية”، مذكراً بأن
لبنان وقّع على المعاهدات الدولية لحقوق الانسان والتزم بتطبيقها، وهذه
المعاهدات تتقدم على قانون أصول المحاكمات الجزائية، وتستوجب التقيّد بها
وتطبيقها”.
لزوم ما لا يلزم
وتجمع المراجع
القانونية، على أن طعن النيابة العامة التمييزية، لا يوقف تنفيذ الحكم
الصادر عن المحكمة العسكرية، الذي أعاد الفاخوري إلى الحرية. كما أن محكمة
التمييز العسكرية التي تبدأ النظر بالطعن اعتباراً من الغد، غير مقيّدة
بمهلة زمنية لقبوله أو ردّه، وإذا ما قبلت هذا الطعن، وثبت أن الفاخوري بات
خارج الأراضي اللبنانية، فهذا الطعن يصبح لزوم ما لا يلزم. وعندها يصبح
الخيار الوحيد بمحاكمته غيابياً لا أكثر ولا أقلّ، خصوصاً وأن معلومات تفيد
بأنه فور صدور الحكم، غادر الفاخوري المستشفى التي كان يتلقى فيها العلاج،
ونقل على عجل إلى مقرّ السفارة الأميركية في عوكر.
طائرة خاصة
وتضاربت المعلومات حول مكان تواجد “العميل المحرر”. إذ يتحدث بعضها أنه لا يزال في مقرّ السفارة الأميركية، فيما تفيد معطيات أخرى، بأنه بعد ساعات قليلة على وصوله إلى السفارة، نقل إلى مطار رفيق الحريري الدولي، وكانت بانتظاره طائرة خاصة نقلته إلى قبرص ليغادر منها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وشددت المعطيات على أن “تسريع الافراج عنه، كان بمثابة سباق مع الوقت لإخراج الفاخوري من لبنان قبل إقفال المطار والمرافيء البرية والبحرية يوم الأربعاء، إنفاذاً لقرار “التعبئة العامة”، ولقطع الطريق على الطعن بالحكم وإمكانية المسارعة إلى إصدار مذكرة توقيف جديدة بحقه. لا بل ذهب بعض المغردين على وسائل التواصل الاجتماعي للقول “الفاخوري أصبح في أميركا.. انتظروه ليخاطبكم من واشنطن”.
المدن