العمر حطّاب الأماني…
الدكتورة ناتالي الخوري غريب*
ما العمر؟
حطّابٌ يقطّع الأماني، أمنيةً أمنيةً، لشتاءات ليلُها يطول، يُحوجها دفءٌ كثير، وتُشعلها قُبْلة أو بسمة أو كلمة، ولا تطفئها دِيمةٌ أو طوفان. وما ينفع الحطّاب إذا اشتعلت أمانيه وصارت أحماله رمادًا؟ والذئاب التي تخاف النار، لا يبعدها الرماد. وما ينفع إنْ لم تشتعل أمانيه؟ فالباردة منها لا تدفئ له ليلًا ولا هو قادر على عيشٍ بلا دفء؟ فهل يُقطع الحطب إلاّ ليذوق طعم النار؟ والتجارب فأس، والزند نبض، والغصن بضّ، والمساء: وعد الهمس والكأس والموقدة…
هو العمر، كومة من أمنيات، إمّا نشعلها دفعة واحدة، وإمّا لا يكون عمرَا. فالساحرة استقالت مذ سُرقت منها العصا، والفانوس ضاع في البحر مذ جنّ المارد، واحتكاك الحجارة ما عاد يشعل نارًا. هو العمر، صحوة بين غفلتين في غابة، وعابرون غرباء، وألف رجمة على من يخالف قانونها، ولو كان لا يجيد القراءة. فالأسد رابض، والنحلُ والنملُ في رحلة القمح والعسل، والحملُ ونعاجُ الراعي في طمأنينة مع الحارس…وللحمار الأثقال.
لكن الموقد لا يُخبر عن نهاية الحطّاب في حكاياه، فقد صار مرقصًا، وبراعم الأماني تنبت تحت حرارة الجمر، من لحد إلى مهد، تبشّر بها رقصة التوبة الهائمة، تعتقها نداءات الأفق من كوّة علويّة.
ونحن في لعبة العناصر غير المتآلفة راقصون في موقد، يد ممدودة إلى السماء تبحث عن ثباتها، ويد إلى الأرض لا تشبع غرفا منها، عين على السماء تصبو إليها، وعين على الأرض تشتهيها، والقدمان في حيرة بانتظار أمر الخطوة الآتية.
وتبقى ذكرى الجمر ساكنةً في ظلّ الرماد الذي يحكي أنّه كان يوما شجرةً كبيرةً، لغمرة أغصانه لذّةُ طفلٍ على أيدينا يختصر جمال العمر في اكتمال السير وانعكاس الصور. لكنّ الأوراق لا تحنّ إلا للعاصفة التي اقتلعتها، وذاقت معها لفحة الانعتاق… والأيدي التي زرعتها، هي نفسها صارت تلاعب الرماد، وتبني منه للنار مسكنًا جديدًا..
هوذا العمر، حطّابٌ يرى ثوبَه وقد صار رتقًا فوق رتق، من جلدٍ من روحٍ من مِدد، وما تبقّى من خيطانه يصرخ من وجع التصليح في غرز الإبر، وحين يخلعه سيبصر وَيعي أن الرتوق لا لُحمة فيها ولا دفء ولا عَضَد. فما ارْتَتَقَ جرحٌ، إلا عاد وانفتق… فما ينفع العمر إن لم يحنّ العجوز إلى طفل فيه، كان يحترف براءة الوجد؟ وما ينفع إذا لم يكن ردّة الروح لطين يأبى ذلّ عيش بلا حبّ؟ أم هو كيانٌ عارفٌ تعرّى، فلطفَ وشفّ وعلا، وخبّر صداه ذوبَ الناي باللهب. هو العمر ماء وروح وامتلاء، وحلم يداعب المساء، وقلم يهوى يخربش على السماء، وكذبة، تسامر نجمة، والفجر قريب…
من كتاب أزاهير العبث، للناقدة اللبنانية ناتالي الخوري غريب، دار سائر المشرق، ٢٠١٨
*أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية