الرئيس عون: الخطة لم تُدرس بفكر سياسي بل اقتصادي
ألقى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كلمة في بداية “اللقاء الوطني المالي” في قصر بعبدا، جاء فيها:
“هذا اللقاء ليس الأول من نوعه، بل سبق ودعوت إلى لقاءات مماثلة، عندما واجهتنا قضايا وتحديات أساسية، احتاجت مقاربتها إلى توافق وطني.
وهل من مراحل وحقبات عاشها لبنان أشد إلحاحاً وحاجة إلى مثل هذا التوافق، كما هي الحال اليوم؟
ليس الإنقاذ الذي نسعى إليه مسؤولية طرف واحد، أو جهة سياسية واحدة، أو سلطة واحدة؛ فالخروج من النفق المظلم الذي نعبر فيه، هو مسؤولية الجميع.
أقولهذا الكلام بداية لأنّ الوهن الكبير والخطير الذي اصاب بنية وطننا الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة والاجتماعيّة يفرض علينا أقصى درجات الشفافيّة وأيضاً أقصى درجات الاتحاد، في ظلّ أزمة نزوح طالت من دون أفق وتفاقمت تداعياتها على المستويات كافة، وفيروس “كورونا” استجدّ وزاد من انسداد شرايين اقتصادنا ونموّنا العليل، وانكماش اقتصادي قاس، وتراجع الطلب الداخلي والاستيراد، كما التصنيع وتصدير المواد والخدمات، ونقص حادّ في العملات الأجنبيّة المتداولة، وارتفاع مخيف لمعدّلات البطالة والفقر، وارتفاع متفلّت من أيّ ضابط لأسعار السلع على أنواعها، وتهاوي سعر صرف عملتنا الوطنيّة، وتراجع الإيرادات الضريبيّة وانحسار ضماناتنا الاجتماعيّة.
الأزمة المعقّدة هذه ليست وليدة اللحظة، وهي نتاج تراكمات متتالية في الزمن، وسياسات وممارسات خاطئة اعتمدت اقتصاد الريع وأغفلت اقتصاد الإنتاج، كما حذرنا منه في 48 موقف علني منذ توليّ سدة الرئاسة، كما فضّلت الربح السريع على الربح المألوف ولكن الدائم، والذي يأتي من قطاعات الإنتاج والخدمات والمعرفة. لا بدّ أن نضيف إلى عامل سوء إدارة شؤوننا العامة عوامل أخرى فاقمت حالتنا المرضيّة، كتغيّر المحيط من حولنا، وتأثير الحروب المتنقلة في منطقتنا، فضلاً عن أزماتنا الوطنيّة الناجمة عن تبعثر قرارنا السياسي التوافقي في مفاصل واستحقاقات مهمة من حياتنا العامة.
نحن نشخّص كي نستخلص العبر والعلاجات، ذلك أنّ أحوج ما نكون إليه في أيّامنا هذه هو تجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسيّة فنتّحد للتغلّب على أزمتنا المستفحلة وتغطية الخسائر المحققة في قطاعاتنا كافة، العامة والخاصة.
أيها الحضور الكريم،
في اجتماع سابق في الثاني من أيلول 2019 في القصر الجمهوري، قررنا إعلان حالة طوارئ اقتصاديّة ووضع إطار مالي متوسط المدى لمعالجة ما تعاني منه ماليتنا العامة، والإسراع في إطلاق المشاريع الاستثماريّة المقررة ضمن إطار مؤتمر CEDRE، والتوافق على تقرير «ماكينزي» ورسم خريطة طريق لتنفيذ التوصيات القطاعيّة الواردة فيه.
وفي حين كنا نأمل أن يساهم ما اتفقنا عليه حينها بتفادي حصول أزمة حادّة في ميزان المدفوعات، أو على صعيد سعر صرف الليرة اللبنانيّة أو تمويل ماليتنا العامة، وبالتالي تحفيز الإنتاج وتزخيم الحيويّة في القطاعات الاقتصاديّة كافة، تلاحقت الأزمات والانتكاسات منذ تشرين الأوّل 2019، بعد أن توقفت المصارف عن تلبية طلبات مودعيها في تموز 2019، ودخلنا مرحلة شديدة التقلّبات، فأصبحت المعالجات أكثر إلحاحاً.
من هنا أتت خطة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة وفقاً لصلاحيتها المنصوص عنها في المادة 65 من الدستور، وهي خطة إنقاذيّة واكبها طلب المؤازرة من صندوق النقد الدولي، وهو الممرّ الإلزامي للتعافي إن أحسنّا التفاوض والتزمنا جميعنا المسار الإصلاحي الذي ينشده شعبنا أوّلاً بأوّل من دون أيّ إملاء أو وصاية أو ولاية، فنضع حدّأً لاستنفاد الاحتياطات الخارجيّة ونحمي أموال المودعين ونحاول بجدّ وتصميم احتواء عجز الموازنة ومعالجة تدني المستوى المعيشي للمواطنين اللبنانيين، لاسيّما الأقلّ مناعة منهم والذين سُدّت في وجههم أساليب العيش الكريم.
بالإضافة إلى الإصلاحات الهيكليّة، والتي سعت إلى قسم منها الحكومات المتعاقبة، تهدف الخطة إلى تصحيح الاختلالات البنيويّة في الاقتصاد والمال، وإلى تأمين شبكات الأمان الاجتماعيّة والمساعدة المباشرة لمن هم أكثر حاجة، وإلى استعادة الثقة بنظامنا الاقتصادي والمالي، كما تهدف إلى خفض الدين العام بشكل يقي لبنان المخاطر المستقبليّة، ووضع الماليّة العامة على مسار مستدام، وتحقيق الشفافيّة من خلال التدقيق المالي، وإلى كشف الخسائر المتراكمة في مصرف لبنان وتصحيحها، وإلى إعادة الاعتبار إلى التسليفات للقطاعات الإنتاجيّة.
كما ترمي إلى تطبيق تدابير إصلاحيّة لتعزيز النموّ وزيادة الإنتاجيّة، بالإضافة إلى تصحيح ميزان المدفوعات وتحسين القدرة التنافسيّة للاقتصاد، بالتوازي مع إصلاح مالي يركّز على استئصال الفساد وتحسين الامتثال الضريبي وضبط الهدر وحسن إدارة القطاع العام.
كذلك تسعى الخطة، في كلّ مراحلها، إلى تجنيب الفئات الأقلّ مناعة من شعبنا تداعيات الأزمة وإلى تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، من ضمان وصحة وتربية وغيرها من الحاجات الحيوية.
لذلك، وبالإضافة إلى الدعم المالي الخارجي المطلوب، فإنّ نجاح الخطة وارتضاء التضحيات التي تستلزم، والتي تبقى، على صعوبتها، أقلّ حدّة من تداعيات انهيار اقتصادي ومالي شامل، إنّما يتطلبان اتحاداً وطنيّاً ووعياً عميقاً لما يهدد وجودنا وكياننا وهويّة لبنان.
وهي، وإن حددت الأهداف، فيبقى علينا البدء بإجراءات تنفيذية فورية تعيد الثقة بالدولة وبالقطاع المصرفي على الصعيدين الداخلي والخارجي، واعتماد خطوات تطبيقية سريعة وضرورية.
أيها الحضور الكريم،
إن هذه الخطة لم تدرس بفكر سياسي، بل بفكر اقتصادي. لذلك، أدعوكم كقيادات سياسية تتمتع بتمثيل شعبي أوصلها إلى الندوة البرلمانية، إلى مقاربتهامن هذا المنطلق لعلّنا نتمكن من استعادة دور لبنان: واحةً من الليبراليّة الاقتصاديّة المسؤولة وغير المتوحشة، في ظلّ سيادة القانون ومنطق المحاسبة والشفافيّة والعدالة الاجتماعيّة والإنماء المتوازن والإصلاح المستدام.
وفّقنا الله جميعاً في مسعانا واتحادنا لما فيه خير وطننا وشعبنا.
عشتم وعاش لبنان”.