التحقيق الدولي وحده موضع ثقة… شحنة الأمونيوم لم تكن وحيدة ومعامل لإنتاجها في سوريا
مفتعلٌ، غير مفتعل، سيّان.
إهمالٌ، أو غير إهمال، سيّان.
توقيفات، أو بلا توقيفات، سيّان.
لا شيء، فعلاً لا شيء، سيُعيد إلى عائلة ثكلى فرداً منها فقدته في انفجار بيروت.
لا شيء، فعلاً لا شيء، سيعوّض خسارة مستقبل شخصٍ عمل ليل نهار ليحقق جزءاً منه.
والأهم أن لا شيء سيعيد ثقة الناس بهذه الطغمة الجاثمة على الحكم.
وفيما يتهيأ المواطنون اليوم لتشييعٍ شعبيٍ رمزيٍ حاشد للضحايا في وسط بيروت، وفيما أهالي المفقودين يبحثون بين ركام بيروت عن أبنائهم، وفيما صرخات الأمهات على فقدان أحبّتهم تخنق الأنفاس، بقيت السلطة غائبة بكافة رموزها، تعيش في عالم موازٍ لا إحساس فيه، بل صلفٌ ومكابرة واستغلال.
بعض السلطة يستثمر في هول ما حصل، ويرى في الدمار باباً لفكّ عزلته في الحكم، ويرى في الضحايا معبراً له للتواصل مع دول العالم التي تنكر وجوده. وبعض السلطة الآخر يرفض بوقاحة المساعدات الدولية والعربية، ويرى أنه بغنى عن الجميع فهو حقق 97% من الإنجازات.
في هذا الوقت نفى أمين عام حزب الله حسن نصرالله علمه بالكارثة التي أصرّ على تسميتها بالحادثة، نافياً أيضاً أن يكون للحزب أي علاقة بمرفأ بيروت لا من قريب ولا من بعيد. وقال إنه لا يعرف ما كان يجري في المرفأ، وإنه ليس صحيحاً، على حد قوله، أن حزب الله يخزّن أسلحةً في المرفأ، مطالباً “بتحقيقٍ شفّافٍ يجريه الجيش اللبناني الذي يثق به الجميع”.
وقد كان حاسماً في مقابل ذلك رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، بتأكيده على التحقيق الدولي، وبإشارته إلى أن حزب الله، وبجهازه الاستخباراتي، لا يمكن أن يُقنع أحداً بأنه لم يكن يعلم.
توازياً، ومع دخول جامعة الدول العربية على خط مساعدة لبنان، والبحث عن حقيقة ما حصل، يصل أمينها العام، أحمد ابو الغيط، إلى بيروت اليوم للإطّلاع من المسؤولين اللبنانيين على تفاصيل الكارثة، ولمواساة اللبنانيين بما حلّ بهم.
وفي الوقت الذي غادر فيه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي شكّل حضوره إلى بيروت بعد هذه الكارثة بارقة أمل بتغييرٍ ما وبمحاسبة ما للمسؤولين عما جرى، وفيما أهالي الضحايا المفجوعين منهمكين في دفن موتاهم، والمتضررون يقفون على أطلال منازلهم المهدّمة يلملمون ما تبقى لهم من أثاث، مضت خمسة أيام على الكارثة التي أودت بحياة 154 شهيداً، وأكثر من 5000 جريح، ومضت أربعة أيام على إعلان حالة الطوارئ وبدء التحقيق المحلي في ظل معلومات مريبة حول التعاطي الرسمي مع الملف. فهل بدأت السلطة فعلاً بطمس الحقائق ولفلفة القضية باعتبارها حادثاً عرضياً؟
في هذه الأثناء كان لافتاً ما كشفه عضو كتلة “اللقاء الديمقراطي”، النائب وائل أبو فاعور، عن محاولات أهل السلطة طمس معالم الجريمة، واعتبارها حدثاً عرضياً، وهو الأمر الذي علّق عليه رئيس حركة التغيير، المحامي إيلي محفوض، في حديث لـ “الأنباء” بقوله إن التحقيقات لم تبدأ بعد حتى تنتهي، لأن ما جرى خرج من يد السلطات المحلية، وأصبح في عهدة التحقيق الدولي، إذ أن الانفجار الذي حدث ليس انفجاراً عادياً، ولم يستهدف شخصاً أو شخصين، بل حصل في مرفقٍ حيوي هو مرفأ بيروت. وصحيحٌ أنه لدينا سيادة على مرافقنا الحيوية، لكن هذه المرافق والمرافئ تصنّف في القانون الدولي على أنها صلة الوصل مع مختلف مرافئ العالم، خاصةً إذا تقاعست الدولة في التحقيق في الانفجار الذي أودى بحياة عددٍ من الأجانب أيضاً، بينهم فرنسيون وألمان، ومن جنسيات مختلفة. لذا لم يعد التحقيق من ضابطة عدلية ليدحض التحقيق الدولي، معتبراً أن هناك فرقاً بين إنشاء محكمة دولية وبين التحقيق الدولي. ولفت إلى أن ماكرون جاء إلى لبنان ليُسمِع ما لديه من معطيات. أما القرار بالتحقيق الدولي فمتخذٌ من أميركا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، وجامعة الدول العربية. وهناك محققون من جنسياتٍ مختلفة يقومون برفع الركام والمستندات لبدء التحقيق.
محفوض لم يستبعد حصول عراقيل لإعاقة التحقيق، ووضع العصي بالدواليب، والتأخر يوماً بعد يوم للكشف عن المسؤولين. وقال إن، “نصرالله بقوله إنه يعرف ماذا يجري في مرفأ حيفا أكثر مما يجري في بيروت، إنما فعل ذلك لأنه استشرف بأن التحقيق الدولي سيورّط حزب الله. ولو قال إنه يعرف ما يجري في مرفأ طرطوس أو اللاذقية أكثر مما يعرف ما يجري في مرفأ حيفا، وأكثر مما يعرف في مرفأ بيروت، لرفع عنه هذه التهمة”.
وشدّد محفوض على، “ضرورة طرح السؤال عما إذا كانت هناك مواد أخرى كالتي انفجرت، وتبيان ما إذا كانت كل التفجيرات التي طاولت قيادات 14 آذار استُعملت فيها هذه المواد”، معتبراً أن هذه الجريمة ستكشف الكثير من الأسرار والألغاز التي تدور من العام 2005 حتى اليوم.
القيادي في تيار “المستقبل”، النائب السابق مصطفى علوش، رأى في حديثٍ مع “الأنباء” أن، “نصرالله لم يقل شيئاً مهماً. فالحقيقة لن تظهر بوقتٍ قريب”، على حد تعبيره، وأن “أركان السلطة يعملون على طمس معالم الجريمة، وقد يعتبرونها حدثاً عرضياً مأساوياً وينتهي الأمر، لكنهم لن يستطيعوا لفلفة ما جرى إلى ما شاء الله إذا بقي الضغط. وإذا الدول لم تقتنع بالتحقيق الذي تجريه الدولة، فمن الممكن تكليف لجنة تحقيق دولية”.
ورأى علوش أن، “نصرالله يتقن منذ مدة طويلة فن الخداع الحربي، لأنه يعتبره جزءاً من المعركة”، مستغرباً في سياقٍ آخر، “كيف أن ماكرون كان واضحاً وشفافاً، ومتأثراً بما جرى فيما الرئيس عون لم تظهر عليه علامات الأسف، ولم يقل شيئاً”.
عضو كتلة الجمهورية القوية، النائب وهبة قاطيشا، قال لـ”الأنباء”: “إذا كان نصرالله بريئاً، ولا دخل له بما جرى، فلماذا يرفض لجنة التحقيق الدولية، ولا ينضم إلى القوات واللقاء الديمقراطي، ويطالب بلجنة تحقيق دولية”، متوقعاً “الذهاب في نهاية المطاف إلى لجنة التحقيق الدولية لأن ما حصل جريمة ضد الإنسانية، وحصلت في مرفأ دولي”.
وأشار قاطيشا إلى، “أنهم قد يحاولون طمس معالم الجريمة، لكن بيروت تحولت إلى مدينة منكوبة، والأجانب لديهم معرفة بكل شيء. فمهما حاولوا إخفاء معالم الجريمة فهذا سيشكّل إدانة لهم في نهاية الأمر”.
في غضون ذلك، حصلت “الأنباء” على معلومات من مصادر متفرقة، لكنها بحاجةٍ للتدقيق أكثر في تفاصيلها، وهي برسم المعنيين للتثبت منها، عن أن شُحنات نيترات الأمونيوم التي انفجرت في بيروت لم تكن وحيدة أو يتيمة. وقد تحدّثت بعض هذه المصادر عن معامل موجودة في سوريا لتصنيع هذه المواد وتعديلها لتصبح أكثر تركيزاً، ما يتيح استخدامها في صناعتَي المتفجرات ورؤوس الصواريخ، مشيرةً إلى وجود معملٍ في حمص غرب المصفاة يقوم بتصنيع نيترات الأمونيوم، ونيترات البوتاسيوم. وهذا المصنع يقع منذ عام 2012، تحت سيطرة الموالين للنظام السوري. كما يتواجد معملان آخران في الكسوة والسفيرة في سوريا.
وذكرت المصادر أن المواد الأساسية التي يتمّ استخدامها في صناعة النيترات تأتي عادةً من جنوب أفريقيا أو فنزويلا، وهناك أربعة بواخر على الأقل عبرت السويس منذ عام 2012 وهي محمّلةٌ بها.
الأنباء