الثمن الاقتصادي لفشل المبادرة الفرنسية: اختفاء المال
حاوَلَ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مدّ يد العون إلى المنظومة السياسية وإنقاذها، بعد وصولها إلى ذروة فشلها جرّاء تفجير مرفأ بيروت. تغاضى ماكرون عن معضلة حزب الله، معتبراً أن التودّد إليه واعتباره مكوّناً سياسياً عادياً كباقي المكوّنات، سيسهّل المهمّة الفرنسية التي تنظر إلى لبنان على أنه معقل فرنسي يكاد يطير من يد “الأمّ الحنون”. فتلطيف الأجواء مع الحزب يُحرِج الأميركيين، ويُظهِّر باريس بصورة الاعتدال، على عكس واشنطن.
غير أن المساعي الفرنسية لم تقدّم شيئاً
على المستوى الاقتصادي، بل وضعت الكرة في ملعب المنظومة اللبنانية، عن طريق
تخييرها بين الاتّفاق على حكومة وتسيير أوضاع البلاد، وبالتالي الحصول على
الأموال الموعودة من مؤتمر سيدر وصندوق النقد الدولي، وبين الإخفاق وتحمّل
المسؤولية.
رهان خاسر
عرف ماكرون منذ البداية
أن دخوله لبنان كمنقذ، هو رهان محفوف بالمخاطر. والمعضلة الكبرى بالنسبة
إليه، هي غياب الفرص التالية للنظام. فباعتباره أن مبادرته هي “الفرصة
الأخيرة لهذا النظام”.
لم يتلقّف النظام المبادرة الفرنسية كما
يجب. وكذلك، لم يعر اهتماماً للفرص التي قد تكون المنقذ الفعلي له، في ظل
ارتفاع أسعار الدولار وإمكانية تفلّت أسعاره في حال استمرار الفشل السياسي،
فضلاً عن تعقيد الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي، زيادة عزلة لبنان
إقليمياً ودولياً، خصوصاً وأن الرئيس الفرنسي أكّد أن أمام لبنان ثلاثة
أشهر ستكون أساسية لاحداث تغيير حقيقي، وإلاّ، فالعقوبات الفرنسية جاهزة،
وتبدأ من حجب أموال مؤتمر سيدر، وصولاً إلى “فرض عقوبات على الطبقة
الحاكمة”.
رسمياً، أعلنت الرئاسة الفرنسية وصولها إلى حائط مسدود،
داعية الطبقة السياسية إلى تحمّل مسؤولياتها، بعد عدم احترامها التعهدات
التي قطعتها للرئيس الفرنسي، والقاضية بتأليف الحكومة خلال 15 يوماً. وفي
المقابل، لم يفقد قصر الإليزيه أمله بنجاح الطبقة السياسية في تشكيل
الحكومة وتطبيق الإصلاحات المطلوبة.
انعكاسات اقتصادية
بعيداً
عن ترك المجال مفتوحاً أمام الآمال والأماني، تدرك الرئاسة الفرنسية أن
مهمّتها فشلت، وأن المنظومة الحاكمة في لبنان غير قادرة على التفاهم وتشكيل
حكومة. وحتى وإن تمّ استيلاد الحكومة بجهود خارجية، فإنها ستولد ميتة على
شاكلة حكومة حسان دياب، التي تعيش اليوم على أوكسيجين تصريف الأعمال.
هذا الواقع يعني أن الوضعين الاقتصادي
والاجتماعي سيتأزّمان. فالدولار بدأ منذ نحو أسبوع مسيرته نحو الارتفاع،
وهو اليوم لا يقل عن 7500 ليرة، بعد محافظته لفترة طويلة على مستوى يقل عن
7000 ليرة.
لا شيء يوحي بالثقة التي قد تضغط على الدولار ليعاود
النزول. فمن يملك الدولار يقرأ المؤشّرات السياسية السلبية داخلياً
ودولياً، ويفضّل الاحتفاظ بأمواله خشية تدهور الأوضاع بوتيرة متسارعة وأكثر
مأساوية. كذلك تجّار السلع، سيرفعون مستوى أسعارهم بالتوازي مع ارتفاع
منسوب الخوف من المستقبل.
الفشل الفرنسي هو دعوة غير مباشرة
للمسثمرين الدوليين بالابتعاد عن لبنان. وهذه الدعوة، تُضاف إلى انعكاسات
تخلّف لبنان عن سداد مستحقات سندات اليوروبوند.
مرفأ بيروت لم يعد
ذا أهمية كما كان في السابق. مؤسسات الدولة تعيش حالة تباطؤ في العمل وتآكل
داخلي نتيجة الفساد، وأتى انهيار القيمة الشرائية للعملة اللبنانية، ليعزز
تآكلها.
معدّلات الفقر والبطالة تتسارعان نحو الأعلى. ومع غياب
الاحصاءات الرسمية، إلاّ أن بعض الاحصاءات تشير إلى سقوط نحو نصف
اللبنانيين في دائرة الفقر وملامسة مستوى البطالة لمعدّل 50 بالمئة، أي أن
نصف القوى العاملة اللبنانية خرجت من سوق العمل. علماً أنه ليس كل من بقي
في السوق، يحظى بعمل لائق وأجرٍ كافٍ، وهذا ينعكس بدوره على مؤشرات الفقر.
ماذا بعد الفشل الفرنسي؟
لا
أحد خارج لبنان يستعجل تشكيل حكومة وانقاذ البلاد. لا الدول العربية تفكّر
بلبنان، ولا الولايات المتحدة الأميركية مستعدّة للتنازل في ضغطها السياسي
والاقتصادي، انطلاقاً من عنوان العقوبات على حزب الله. أمّا فرنسا، فلن
تبقى وحيدة في الميدان تراقب خسارة أوراقها واحدة تلو الأخرى.
وعليه، ليس بالضرورة أن يكون هناك حلّ قريب للأزمة اللبنانية. كلّ ما يمكن أن يحصل هو استمرار حكومة دياب في تصريف الأعمال، على أن تقوم المنظومة بـ”تزييت” مفاصل الحكومة، وتلميع صورتها عبر اتخاذ بعض الاجراءات ذات المنحى الاقتصادي الاجتماعي. ثمّ تقديمها على أنّها أفضل الممكن، تماماً كما جرى تقديمها يوم تشكيلها. وهذه النتيجة لا تعني استقرار الوضع في لبنان، بل هي غذاء إضافي للانهيار والتعقيد الذي لن تكون المنظومة بعيدة عن نتائجه، التي قد لا تقف عند اشتعال التظاهرات في الشوارع.
المدن