الانتحاريّ عون أو جهنّم – 2
نديم قطيش – اساس ميديا
كلام الرئيس ميشال عون للصحافي نقولا ناصيف، في جريدة “الأخبار”، لم يفجّر السجال المتوقَّع. ما قاله عون لا يقلّ عن إعلان افتتاح الجزء الثاني من مسلسل جهنّم.
قفز فخامته فوق كلّ الاستحقاقات والتحدّيات التي تواجه البلاد الآن إلى رأس النبع: الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ما قاله في هذا السياق يتجاوز في مضمونه الانقلابي كلّ ما صدر عن العونيّة السياسية وعصفها التدميري منذ نشأتها.
لا شكّ أنّ الرئيس يخوض معركة وجوديّة بكلّ المقاييس، في حين أنّ حزب الله معنيّ بالنظر إلى إعادة التشكّل الإقليمي الحاصلة وانعكاس نتائجها عليه وعلى تحالفاته واصطفافاته وسقوفه السياسية
ببساطة شديدة، أعلن عون أنّ الطريق إلى بعبدا تمرّ عبر معايير يضعها هو، وتحدِّد مواصفات، وربّما شخصيّة، الرئيس المقبل، بمعزل عن توازنات القوى داخل مجلس النواب، أو “الظرف الإقليمي والدولي” الذي لطالما كان الناخب الأبرز، بإقدامه أو بعزوفه عن لهيب السياسة اللبنانية.
قال عون إنّه “لن يأتي بعدي رئيس كما قبلي. لن يكون بعد الآن رئيس للجمهورية لا يمثّل أحداً، ولا يمثّل نفسه حتى، بل ابن قاعدته”. بيد أنّ الذروة الانقلابية صاغها بعبارة شديدة الوضوح: “أنا لن أسلّم إلى الفراغ”.
إذاً ثمّة عقبتان، لا عقبة واحدة، على الجميع تجاوزهما لضمان خروج عون من بعبدا.
الأولى أن تبقى في البلاد مؤسسات قادرة على تسلّم صلاحيّات رئيس الجمهورية، كمجلس الوزراء، أو قادرة على انتخاب رئيس جديد كالمجلس النيابي. وما ليس خافياً أنّ هاتين المؤسّستين تتعرّضان إمّا للاهتزاز اليومي كما هي حال أقصر حكومات لبنان عمراً (أسرع حكومة أصيبت بالسكتة الحكومية)، أو حال مجلس النواب الذي يقترب من خطّ نهاية صلاحيّته وسط خلاف محتدم على كلّ ما يتعلّق بالانتخابات، بدءاً من موعدها، وصولاً إلى التفاصيل التقنيّة التي تتعلّق بطريقة الانتخاب وحقوق الناخبين وانتخاب المغتربين والميغاسنترز وغيرها.
أمّا العقبة الثانية التي لا بدّ من تجاوزها لضمان وصول رئيس جديد للبلاد، هو أن يحظى المنتخَب بختم الشرعية المسيحية التي يدّعي عون تمثيلها والنطق باسمها وينتحل صفة الجهة المانحة لها!
هذا ما قاله بالضبط.
طبعاً لا يعني فخامته أنّنا جرّبنا “عهد الرئيس القوي” الذي ما أوصلنا إلا إلى جهنّم، وها هو يعدنا بجهنّم إضافية. فتجربته الرئاسية ستندرج في تاريخ لبنان تحت بند ما لا ينبغي تكراره لا في لبنان ولا في أيّ بلد آخر، ويمكنها أن تتحوّل إلى فصل دراسي في العلوم السياسية تحت عنوان “كيف لا تكون رئيساً”.
ولا يعنيه طبعاً الاعتراف بأنّ التمثيل المسيحي ما عاد بحوزته كما تقول كلّ الأرقام التي يجريها حلفاؤه قبل خصومه، وإن كان من حقّه علينا أن ننتظر نتائج الانتخابات المقبلة (هل ستحصل؟ وهل له مصلحة فيها؟!).
ولا يعنيه أكثر وأكثر أنّ التمثيل المسيحي لسمير جعجع زاد في مقابل نقصان شعبيّته هو وشرعيّته المسيحية، وهو ما مؤدّاه أنّ الرئيس الذي يمثّل بيئته، لو اعتمدنا هذا المعيار تجاوزاً وعلى سبيل المحاججة، هو سمير جعجع لا جبران باسيل، الذي صارت شتيمته مرادفةً للنشيد الوطني المعاصر بصيغته الثورية!
كلّ هذا النقاش التفصيلي يقع خارج حسابات عون الذي يبدو أن لا صلات جدّيّة لا تزال قائمة بينه وبين الواقع. كأنّ الرئيس انتقل من عنوان “لعيون صهر الجنرال عمرها ما تتشكّل حكومة” إلى “لعيون صهر الجنرال عمرها ما تكون رئاسة أو بلاد”.
أعود إلى تصنيفي السابق أنّ العونيّة حالة مرضيّة قبل أن تكون حالة سياسية. ثمّة مقدار من الإنكار لا يمكن تصنيفه إلا بمعايير عياديّة. نحن بإزاء مشكلة في علم النفس والتربية والأخلاق لا في علم السياسة. وإلّا فكيف نفسّر أنّ رئيساً يقول بكامل قناعته أنّه سيسلّم من بعده بلاداً أفضل من التي تسلّمها؟ ثمّ يعدنا بجهنّم؟ ثمّ يقودنا إلى جهنّم أخرى لأنّه مقتنع بكامل ذرّات وجوده أنّ صهره، الخاضع لعقوبات أميركية لن تزول، هو أمل لبنان واللبنانيين، وأنّ دون منع وصوله للرئاسة إحراق البلاد بمَن وما فيها؟
أطلق عون عبر مقابلته الأخيرة المسار الانقلابي الأخطر منذ انقلابه الأخير عام 1988. السؤال الآن: ماذا سيفعل حزب الله؟
لا شكّ أنّ الرئيس يخوض معركة وجوديّة بكلّ المقاييس، في حين أنّ حزب الله معنيّ بالنظر إلى إعادة التشكّل الإقليمي الحاصلة وانعكاس نتائجها عليه وعلى تحالفاته واصطفافاته وسقوفه السياسية.
إيران التي خرج حسن نصرالله وخطب باسمها من بيروت عن انتصارها المحسوم في معركة مأرب، باتت أبعد عن إسقاط المدينة كما أظهرت التحوّلات الميدانية الاستراتيجية خلال الأيام العشرة الماضية. وسوريا الأسد تُدفئ مكانها في أحضان “محور التطبيع”، الذي يراكم منجزات ميدانية طويلة الأمد، آخرها الاتفاق الأردني الإسرائيلي الإماراتي حول الطاقة المتجدّدة وتحلية المياه. وإيران التي تحاور السعودية، تفتح أذرعها للإمارات، متجاهلةً الآثار الاستراتيجية للاتفاق الإبراهيمي مع إسرائيل، وهي تسابق تركيا إردوغان على استثمارات أبوظبي علّها تُبعد عن نفسها كأس المزيد من الانهيار الاقتصادي والنقدي. أمّا العراق فتُخاض فيه معركة سياسية كبيرة لم تستطع حتى الآن تغيير النتائج السياسية التي ترتّبت على وصول أوّل رئيس حكومة في العراق من خارج نادي إيران، ثمّ قيادته غير المباشرة لهزيمة حلفائها في انتخابات برلمانية هي الأهمّ منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
ليست هذه علامات صحّة وانتصار إلا لبعض صغار وكبار المعلّقين في بيروت من فرقة “محور الحقيقة الافتراضية”.
إقرأ أيضاً: الحزب أسير “ثنائيّ جهنّم”
كلّ هذه المعطيات باتت جزءاً من حسابات حزب الله، التي قد لا تعني عون، عدا عن أنّها على الأرجح خارج نطاق متابعته وفهمه. وربّما هذا ما يفسّر، إلى حدٍّ ما، أن لا تثير تصريحات عون العاصفة التي تستحقّها.
من البديهيّ القول إنّ لحزب الله دوراً مركزيّاً في صياغة مشهد ما بعد عون، لكنّ من البديهي أيضاً الافتراض أنّ عون يمتلك مشروعه الخاص، وأنّه يزنّر البلاد بحزام ناسف اسمه الاستحقاق الرئاسي، والشرعية المسيحية، وأنّه ككلّ الانتحاريين يعِد نفسه بالوصول إلى الجنّة عن طريق زرّ صاعق التفجير.