كتب نقولا أبو فيصل “بين تاريخ نقرأه وتاريخ نعيشه مش ذات الشيء”!
تاريخ لبنان الحديث لم نقرأه في كتب بل عشناه لحظة بلحظة ، ولن ينخدع فيه اولادنا ابداً ولن نقبل بتزوير الحقائق ، وهنا المعضلة الكبرى لأن نرى محاولات تزوير الحقائق وكتابة تاريخ مغاير للواقع امام أعيننا ، فكيف تريدوننا أن نصدق تاريخ لبنان الذي تعلمناه في المدرسة وانتم تزوّرون تاريخ لبنان الحديث ؟ وعندي بعض الامثلة عن تاريخ كاذب تعلمناه في طفولتنا وكانت الحقيقة عكس الواقع بحسب روايات اشخاص موضع ثقة ، وهذا متعارف عليه لأن الفريق الرابح هو من يكتب التاريخ على هواه وليس الفريق المنهزم . والسؤال لماذا أشعر في قلبي ثقلًا وفي نفسي اكتئابًا؟ ولماذا باتت تزعجني رؤية شباب لبنان وهم يهاجرون ويتركون قراهم ومدنهم، مع قناعتي بقول الامام علي بن ابي طالب بأن “هناك رزق يأتيك ورزق تذهب لجلبه “ورغم انني شجعت كثيرًا شباب لبنان منذ سنوات على خوض تجربة المغامرة والسفر وتأمين مستقبلهم تحت شعار “سافر ما تهاجر”.
ومنذ بداية المآسي في لبنان في سبعينيات القرن الماضي والتي لم تنته حتى اليوم ،وهي تتبدل وتتلون من حروب عسكرية الى حروب إقتصادية ،اعتادت عيناي طيلة سنوات الحرب اللبنانية رؤية القهر في عيون اللبنانيين وكان يقشعر جسمي من رأسي لأخمص قدمي عند رؤية الجثث المقطعة على الطرقات جراء القذائف العدوة والصديقة التي ما قصرت يوماً في جلب البلاء لهذا البلد ، والابنية المهدمة المترامية أمام عيني كأنها شهدت معارك ضارية ، معارك ليست من زماننا! ومنها تناثرت جثث القتلى على مرمى البصر فضلًا عن جثث لمرتزقة أتوا بهم لانهاء الحرب في ساعات ورمي اهل البلاد في مياه المتوسط لأن البديل والساكن الجديد للبلاد جاهز وغب الطلب ! وللاسف بعد اربعين عاماً هناك ساكن جديد ينتظر في الخيّم بانتظار إنتقاله الى السكن الجديد المُعّد له دولياً ، وبعد كل هذه السنوات لا تزال تتسلل لأنفي رائحة ثقيلة، رائحة الجيف البشرية، حين يتحول ابن آدم الذي تغذى على الطبيعة زمنا إلى وجبة لهذه الطبيعة نفسها، دورة الحي من الميت والميت من الحي اللانهائية التي أسس عليها الكون ميزت بكثافة الجثث المكدسة فيه، وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد، وجثث قوم لقوم طعام.
اكاد لا أنسى مشاهد القتل والخطف والموت ، وما كان يحيط بي من كل حدب وصوب ، وبين الهروب بنظري إلى سواد السماء ونجومها المنثورة فيه، جذبني فضولي العلمي للبحث في آثار الماضي المرير فطردني نفوري من مشاهد الموت اليومية ويالها من مشاهد، ففي الارقام استشهد ما لا يقل عن ماية ألف شهيد ، وقد يبدو الرقم عادياً حين نقرأه في كتب التاريخ، ولكن حين كنا نحصي القتلى على مر السنين ، ونعيش القهر مع ذويهم كان يختلف الأمر تمام الاختلاف ، وكنت أتأمل بعض وجوه الضحايا الذين “ماتوا ببلاش” وأتخيل آلاف الأرامل بغير رفيق، آلاف البيوت بغير مُعِيل، وآلاف الاولاد بغير أب، أن نقرأ التاريخ شيء وأن نعيشه شيء آخر تماماً ، وهكذا الحال دوماً ولو بعد مرور اربعين عاماً على انتهاء الحرب فإنك لا تزال ترى المقاتلين القدامى الذين اصبحوا متقدمين في السن لا يزالون يعيشون “الحالة” يديرون رحى الحروب الاعلامية التي تطحن معها زهور المستقبل للشباب اللبناني ، رؤوسهم حليقة ولحاهم شعثاء طليقة كأنهم رهبان أو كهنة ! وبعضهم يستر وجهه بقناع قميص اسود مما كان يُلبَس للحرب في ذلك الزمان، لكن ما الذي اعادني بالذاكرة الى تلك الايام السوداء ؟ وهل هم من اقصد؟ أم أن رؤيتي مؤخراً لهؤلاء الاشخاص دفعني لتأويل المشهد بغير ما يحتمل؟
نقولا أبو فيصل