في ذكرى جوزف أبوخاطر: ديبلوماسية الكثلكة الزحلية
بقلم الكاتب الدكتور كمال ديب – كندا
قيل في زمن العثمانيين: “إذا لم تستطع أن تكون ملكاً، كُن طبيباً”، Si tu ne peux pas être roi, sois médecin أي إذا لم تكن على دين الملك، إذهب إلى المهن الحرّة. وقد انطبق هذا القول على رعايا الروم الأرثوذكس في بلاد الشام وبلاد اليونان والصرب وبلغاريا . ثم تكرّر القول معدّلاً في زمن الدولة اللبنانية في القرن العشرين، “إذا لم تستطع أن تكون ملكاً، فكُن في الإدارة العامة”، حيث بات العرف أن تذهب الرئاسات الأولى للطوائف الثلاثة الرئيسية. فانطبق القول المعدّل على الروم الكاثوليك، وفهمه هنري فرعون عندما صرّح: “الروم الكاثوليك ليس عندهم مطامح رئاسية. لذا يمكنهم أن يؤدّوا دوراً فاعلاً كعنصر تهدئة وتقريب في وجهات النظر. وهذه مسؤولية حرصتُ دائماً على التزامها. وهذه الطبيعة تجعل السياسيين المنتمين الى هذه الطائفة ديبلوماسيين من طراز رفيع” (كمال ديب، “آل فرعون في لبنان”، يصدر قريباً عن دار النهار).فلا غرابة أن تخرّج مدينة زحلة، عاصمة الكثلكة الشرقية، كوكبة من الشخصيات الرفيعة في الإدارة العامة، خاصة في السلك الديبلوماسي، شهدنا منها فؤاد الترك ونجيب صدقة وجوزف أبو خاطر وسواهم. وجوزف أبو خاطر كان وزيراً ونائباً وسفيراً، برز في الخمسينات والستينات وكان من العائلات الزحلية السبع والندّ السياسي لبيت سكاف.ترك أبو خاطر عدداً من المذكّرات المنشورة وخاصة في تجربته الديبلوماسية، أبرزها “لقاءات مع عبدالناصر: في صميم الأحداث” (1971 دار النهار ) والجزء الثاني “لبنان في عالم الديبلوماسية: ذكريات وعبر” (1974 دار النهار). وننصح كل من يرغب في العمل في الخارجية اللبنانية أن يطالع هذه المذكرات لما فيها من أولويات العمل الديبلوماسي اللبناني ومبادئه التي تراكمت منذ استقلال لبنان، عندما كان السفراء رواداً في عملهم في واشنطن وموسكو، وفي القاهرة وبغداد، وفي باريس ولندن، يتخذّون قرارات يشعرون أنّها في مصلحة لبنان العليا ويتركون بصماتهم الشخصية في البلد الذي يحلّون فيه. حتى أنّ نَفَسَ هذا الرعيل امتد إلى اواسط الحرب اللبنانية وكان منه السفير غسان تويني.كان جوزف أبو خاطر سفير لبنان في فترة الخمسينات والستينات ونقل لنا طرائف عمّا شهده، سواء في نيل الدول العربية في شمال أفريقيا استقلالها عن فرنسا، أو في الصراعات العربية ومنها حرب اليمن وأزمة الكويت وثورة العراق، أو في الحروب العربية – الاسرائيلية وأبرزها حرب 1967.ومن الطرائف تقريره إلى الخارجية اللبنانية في 27 نيسان 1957 جاء فيه: “سألتُ الرئيس بورقيبة إذا كان يعتبر أنّ قضية فلسطين هي القضية الأولى بالنسبة للعرب، فأجاب: “بتاتاً، بل أنّ قضية الجزائر هي أهم منها بكثير”. ولم أشأ الإذعان لهذا الرأي وقلت له: “إنّ موقف لبنان من المشكلة الجزائرية معروف وأنّه ناصر بكليّته ولم يزل المغرب العربي. ولكني أرى قضية فلسطين هي الأولى بما تحمله من مواطن إذلال بل إفناء للكيان العربي”. على أنّه رفض حتى المناقشة في الأمر وأجاب بعنف…” (ص 154، “لقاءات مع عبدالناصر”).ويضيف أبو خاطر: “ويبدو أنّ الرئيس التونسي لم يكن وحده عند التفكير ذاك. قبل أن تندمج أفريقيا الشمالية في المحيط العربي وتدخل ميدانه من خلال جامعة الدول العربية أو سواها. كان الأمير الحسن الثاني لم يزل ولياً للعهد في المغرب يوم دُعي إلى ترؤس مؤتمر ثقافي في فلورنسا إلى جانب رئيس إيطاليا السنيور غرومكي. وكنّا عدداً من السفراء نمثّل الحكومات العربية من بينهم السفير المصري السيد ثروت عكاشة. قال الأمير حسن في خطبة الافتتاح: “إنّ قضيتين ما زالتا تهددان السلام في الشرق الأوسط: القضية الجزائرية وقضية قبرص!”. وقد سألته فيما بعد في ذلك بحضور عدّة مندوبين وقلت “أين هي إذن فلسطين يا سمو الأمير، وهل أزمة قبرص هي بالنسبة للعرب توازي القضية الفلسطينية؟”. فأجاب:” إنّ قضية فلسطين هي جدية بالنسبة للعرب، ولكن لا فائدة من انشغالنا بها الآن وهي على الرفّ!”. وقد حاولتُ أن أناقش في الموضوع فأصرّ الأمير على رأيه وأصررتُ بدوري” (ص 155).رغم صغر حجم لبنان جغرافية وسكاناً، كان لديبلوماسييه دور عربي هام جعلهم في مقدمة لجان حلّ الأزمات. فقمّة بغداد العربية عام 1979 اختارت الدكتور سليم الحص على رأس لجنة لاقناع الرئيس المصري أنور السادات أن يعدل عن توقيع اتفاقات مع اسرائيل، والجامعة العربية عيّنت جوزف أبو خاطر ضمن وفودها لمعالجة الأزمات العربية. فنقرأ في تقرير أبو خاطر بتاريخ 18 تشرين الثاني 1963، أنّ نزاعاً عسكرياً نشب بين المغرب والجزائر، فأوفدته الجامعة العربية ضمن لجنة لرأب الصدع بين البلدين.وننقل بعضاً من التقرير لطرافته: “أول ما طالعنا في الجزائر، عند هبوط الطائرة وجوه وزراء وسواهم يرتدون الملابس العسكرية، فكانت صورة الحرب هي البارزة، رافقتنا طيلة الإقامة هناك… ومحال عليّ أن لا أذكر تلك البساطة التي تستأثر بالانتباه حالما تصل السيارة إلى ما يسمى “فيلا جولي” مقرّ الرئيس بن بللا الخاص، عبارة عن مبنى كبير ذي طبقات متعددة يقيم الرئيس بن بللا ويعمل في أعلاها.. ويدهش الزائر لانتفاء أي مظهر من مظاهر السلطان منذ الباب الخارجي، فلا حرس حتى ولا حجاب، بل هناك مصعد صغير يفتحه القادم بنفسه. وقد فعلنا وإذ وصلنا إلى الطابق الأعلى تقدّم إلى الباب رجل صغير القامة، ينضح الإيناس والتهذيب منه، فخيّل إلينا أنّه من موظفي البروتوكول وإذ به يقدم نفسه : وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة (أصبح رئيس الجزائر). ودخلنا فوراً إلى الشقة، ولا تعبير آخر ممكناً لذلك المنزل المتواضع… وما أن دخلنا القاعة وقبل أن نجلس حتى فتح الباب المجاور ودخل الرئيس بن بللا علينا بثيابه العسكرية وسترته المفتوحة وصافحنا بحرارة وبدعة”.ثم يشرح جوزف بوخاطر الجلسة وكيف عرض رئيس مجلس الجامعة السيد حسونة والأمين العام ناصر الحاني لقضية الوساطة بين البلدين في حديث مطوّل جنح نحو العبارات المألوفة: “الأخوّة العربية وروابط التاريخ وجمع الشمل ووحدة الصف”. وهنا يعتب أبو خاطر على اللغة الخطابية الانشائية للجامعة العربية التي لا تلاقي صدى في شمال أفريقيا، “حيث يسود الوضوح وحيث يقدّرون قيمة الوقت وحيث يفكرون تفكيراً ديكارتياً يفخرون به”.ثم تناول بن بللا الحديث وقال: “إنّ بلاده ضحية اعتداء لا مبرر له، وبوسع الجزائر ردّ هذا العدوان والتوغّل في الأراضي المغربية”. ومضى بن بللا ملمّحا إلى مصالح اقتصادية كبرى تتضارب في المنطقة وتحاول التلاعب بمقدراتها، وأنّ القضية هي قضية كسب خيرات الجزائر واستثمار الحديد والصلب والبترول، وليست قضية حدود”. وردّ على اقتراح الأمين العام أنّ يجمعه بالملك الحسن: “لماذا؟ كي أسلّم عليه؟ ما لي به؟”.ويقول أبو خاطر: “ثم رافقنا الرئيس بن بللا نزولاً على السلم حتى السيارةـ، رغم مرضه. وكان طيلة الوقت رقيقاً متواضعاً تواضع المكان نفسه، فلم يخاطبنا إلا بكلمة “يا أخواني”، ولم يغادرنا قبل أن تتحرّك بنا السيارة. وقد وضع الرئيس تحت تصرّف اللجنة طائرة خاصة تقلنا إلى الرباط بعد ظهر اليوم ذاته. فتجوّلنا قبل السفر في مدينة الجزائر التي تعطي صورة حقيقية عن مدن أوروبا الرئيسية في جمالها وتنسيق شوارعها وضخامة أبنيتها، وفي الحيويّة والنشاط السائد فيها، وفي طابعها الغربي المتمثل حتى في لوحات المخازن والشركات وكلها بالفرنسية”. (ص 157-159).ثم ينتقل أبو خاطر للحديث عن المغرب: “وما أن حطت بنا الطائرة في المغرب حتى بان الفرق الكبير بين البلدين… فهذا هو مطار الرباط ينضح بالترف والبحبوحة: سجاد مكدّس بعضه فوق بعض وسيارات فخمة وموظفون كبار أنيقو اللباس إلى أبعد حدود الأناقة! وكانت أول مقابلة في المغرب مع وزير الخارجيبة السيد أحمد بلفريج، في مكتبه الفخم في مبنى حديث تحيط به حديقة واسعة وعلى أبوابه الحجاب والخدم”. المهم أنّ البعثة العربية فشلت في مسعاها، لأنّ المغرب والجزائر قبلا وساطة منظمة الوحدة الأفريقية وليس وساطة جامعة الدول العربية، حيث قبل البلدان وساطة مالي، وهي بلد أفريقي فقير وقليل السكان.حياة جوزف أبو خاطر في تعدّد المناصب الرسمية التي احتلها كانت مليئة بالأحداث والطرائف، تتكلم عن لبنان آخر، ذهب ولعلّه يعود. وعزاء زحلة أنّها مدينة متوسطة الحجم ولكنّها كبيرة بشخصياتها الفكرية والسياسية والأدبية