كتب نقولا أبو فيصل “بين حفرون ونفرون النزوح السوري الى أين؟!
من سلسلة كتب “عن لبنان لماذا أكتب “جزء 6
في بلاد جبيل ، وبالقرب من قرى أهمج واللقلوق يرتفع نتوء جبلي بإرتفاع الفي مترٍ يُطلق عليه مُسمى قرن حفرون،وفي الاساطير”حفرون ونفرون” كانا أنصاف آلهة توأمين ولدا على هذه القمة الجبلية الضيّقة الجرداء “حفرون” كما يشير اسمه هو الذي حفر الصخر وعمل من دون نتيجة حتى قضى يوماً ميتاً من الجوع والبرد على صخرته ، اما شقيقه “نفرون ” كما يشير إسمه، فقد هاجر الى بعيد، نَفَر بحثاً عن الثروة في مكان آخر، أخذه البحر الى المجهول وأضاع طريق العودة ! ولا يزال في قمة حفرون بقايا قلعة يعود تاريخها إلى أبعد من العهد الفينيقي ربما ، شكلها هرمي، ويقابلها مرتفع آخر يسمّى “قمة نفرون أو النمرود” وقد تمّ ذكرهما في العهد القديم“حبرون ونفرون”وفي التاريخ يروى أن ملكاً يُدعى حفرون أتخذ هذه القمة مركزاً لإقامته، وبنى فيها قلعة جلب إليها المياه من نبع يبعد عنها حوالي 4 كلم بواسطة قناة حفرت في الجبال(لا تزال ظاهرة حتى اليوم). وقد أقام الملك نفرون، شقيق حفرون في القمة المقابلة التي تحمل اسمه ، وعند قدوم الشتاء رَحل نفرون تاركاً أخاه مع جنوده، وذلك بسبب البرد القارس والثلوج ماتوا جميعهم برداً وجوعاً.
وبحسب الأب ميشال حايك فإن أسطورة “حفرون ونفرون” الحزينة قد تكون تعبيراً عن حقيقة اختبار الفينيقيين الذين تنازعتهم دعوتان كلتاهما إلى الخطر: دعوةٌ للثبات في حمى الجبل وأخرى للرحيل في تيه المجهول. ولكنها تعبّر أيضًا عن حقيقة اختبار اللبنانيين وخاصة الموارنة الذين استمرّوا عرضةً لهاتين التجربتين، فإذا هم موزّعو الفكر بين إرادة الإقامة ونزعة الاغتراب. وبكل الاحوال فهذه الأسطورة هي الأصدق عن تاريخ شعب يعيش في نفسه وعقله حفرون اللاحق بجبله، المنكفىء على ذاته، المنقبض في عزلته، الذي لا يبيع فقره بالدنيا وكلّ تاريخه جهاد مع الطبيعة. وفي النهاية مصيره الإخفاق والموت في فاجعة ، كذلك في نفس كلّ منهم يعيش أيضًا نفرون المهاجر الذي يناديه للرحيل في متاهات الفكر والاغتراب وفي المجاهل ، ثمّ الضياع والانحلال بعيدًا عن تراث الأرض الأولى ونكرانها ونسيان قيمها. وفي لبنان الحديث كم من مقيمٍ أنغلق حتى اختنق مثل حفرون ؟وكم من مغتربٍ أنطلق حتى ضاع في العالم مثل نفرون !
أما التحدّي الكبير الذي يواجهه اللبنانيون في الاغتراب فهو لا يستهان به ، ولا يمكن التنبؤ بمدى امكانية صمود بعض ابناء الاغتراب اللبناني في وجه المتغيرات الاقتصادية خاصة ان العالم يستعد لمواجهة أزمة مالية عالمية قادمة واقعة لا محالة ولا حلول لها الا بتقاسم “حاكم العالم” السلطة مع شركاء جدد له ، ناهيك عن ازمة إجتماعية وأخلاقية قد لا تتكيف العديد من العائلات اللبنانية في الاغتراب معها ، ويبقى قرار البعض بالعودة الى ارض كفرون وهجرة الارض الجديدة التي قادهم اليها نفرون مسألة وقت ! ولكن ما الذي ينتظرهم في ارض كفرون التي يعيش أهلها أعباء النزوح السوري اليها في ظل اقتصاد متهالك ، في وقت لا حلول في الافق للخروج من الازمة الاقتصادية والمالية للسنة الرابعة على التوالي ، وفي ظل عجز تام في تطبيق خيار الإنتاج وترشيد الاقتصاد وتنظيم العلاقات التجارية مع جيراننا في ظل إغراق للاسواق ، رغم تحّسن ملموس في وضع الصناعة الوطنية ، وإذا كنت اتفاعل يومياً مع الاحداث وأكتب عن الاقتصاد غير الشرعي والمصانع غير الشرعية والنزوح السوري الذي فاق عديده وولاداته المليوني نازح ، فالسبب هو أن لا تموت القضية وأن لا نستسلم لتبقى ارض حفرون لاهلها !
نقولا ابو فيصل