وظيفة الكيان اللبناني في رؤية كمال جنبلاط الجدلية
كتب الدكتور شوقي ابو لطيف*
عادة ما تبرز معضلة ما عند كل مفترق من مفترقات الأحداث التاريخية، التي تعصف بالكيان اللبناني، دون أن يكون هنالك من رؤية غير تبضيعية، ترتكز الى مشرط استئصالي، او تقسيمي، او عزلوي، من منظار التعددية الثقافية المرتكزة الى ارومة دينية .
اما الرؤية التي تميّز بها المعلم كمال جنبلاط عمّن سواه، فترتكز الى توصيف نقدي لإشكالية التلاقي بين الاسلام والمسيحية في لبنان، من خلال قراءته لجزء بالغ الأهمية من مكنونات الوقائع الاجتماعية، مستعينا بميراث أسرته الكبير في المراس السياسي إزاء الأحداث التاريخية التي عرفها لبنان، منذ عهد الإمارة، مرورا بالمتصرفية، وصولا الى الانتداب، فالاستقلال وما اعقبه من هزات اعترت الكيان الاستقلالي المحدث، في العام 1958، ولاحقا في العامين : 1975 و1976، قبيل استشهاده.
يتميز منهج كمال جنبلاط النقدي بإيراد بُعدين جدليين لإشكالية التلاقي، الأول منهما هو المتعلق بـ “الصيغة اللبنانية”، التي استند اليها الكيان المحدث عام 1920 والتي تعدّلت بشكل غير جوهري عامي 1943 و1958، ولا يلبث هذا البعد السياسي في الحقيقة، ان يصطدم ببعد ثان آخر يتعلق بالصراع بين الطوائف حول المراكز السياسية والإدارية والعسكرية، او المشاركة العادلة في حقول الاقتصاد والعمران والثقافة .
لكن كمال جنبلاط لا يكتفي بإيراد هذين البعدين الجدليين فحسب، إنّما يطوّر توصيفه النقدي من خلال التدقيق في ما يعمل عليه من تقوية وتكريس وإبقاء للانشطار السياسي والمجتمعي، الناتج عن إحكام طبقي مرتكز الى اقتصاد ليبرالي مطعّم بمركّبين من التقليد والانعزال .
لذا فان كمال جنبلاط يستخلص من جراء ذلك معوقات لوظيفة التلاقي، او (لبنان الرسالة )، تتجسد في تقولب بنيوي تنعكس فيه جميع المنطلقات الخلافية والنزاعات الفكرية والعقيدية، التي نمت وانتشرت في منطقة الشرق الأوسط منذ فجر العهود التاريخية، مما يحول دون التلاقي على فكرة وحدوية يتم فيها انصهار النِحَل المتنوعة في هوية واحدة.
ويتلازم هذا التقولب البنيوي مع عقد نفسية متأصّلة كعقدة “سارازان” وعقد الخوف الاقلوية، التي تتسرب الى هذا التقولب فتُحكم إغلاقه مما يعوق الارتقاء من إطار “الجمهرة او الجمهور” الى مستوى يكون فيه “الشعب” هو القالب الأشمل بنيويا وهوياتيا.
ما أسهم في تفاقم تلك العقد النفسية، برأي كمال جنبلاط، هو الدور الذي تلعبه التربية والثقافة، حيث تتكرس من خلالهما نزعات اثنية دينية، واخرى ثقافية وحضارية، لتنحجب من جراء ذلك روحية انسانية الهية تدأب لتعميق وتحقيق مفاهيم العدل والمساواة والاخوة والتضامن .
ويضاف الى هذا التقولب البنيوي المعيق هاجس الارتقاب المصيري، المبني على رواسب انحطاط الحضارة العربية وتهالكها في عهدي المماليك والأتراك، الذين استكملوا ما اذكته الحروب الصليبية من عصبيات دينية وافتعال ونشر للتناقضات، واستشراء الشعور الاقلوي عند فريق واسع من المسيحيين، وفريق آخر من المسلمين غير السنة .
بيد ان هناك، برأي كمال جنبلاط، موانع للافتراق، بقدر ما هنالك من موانع للتلاقي، مما يوجب اعتماد التسوية برؤية هذه التناقضات، من خلال عقل جدلي توليفي، يمكن تبسيطه بمصطلح “التسوية”، الذي كثيرا ما يتداوله الحكيم المتمرس باللعبة السياسية اللبنانية والدولية الزعيم وليد جنبلاط، في خطابه السياسي الراهن، مفاد ذلك تبصّر ما تحمله التقاليد الشرقية، التي يجد المعلم كمال جنبلاط من خلالها ان التناقض مبعث للتعظيم، اذا ما أُخذ باعتباره تفريجا لنوازع مكبوتة في الاتجاه البنائي، “اذ ان اللبنانيين ينتزعون من هذا التناقض قوتهم وعبقريتهم وتفوق ثقافتهم ورسالتهم “.
ومن وجهة اخرى لموانع الافتراق يجد كمال جنبلاط ان التشارك البيئي ضمن كنوز التراث العربي الإسلامي، هو ما يظلل جوانب العيش الواحد بين الاسلام والمسيحية في المشرق عموما، ولبنان خصوصا، حيث يتوازى البعد الحضاري بالبعد الديني، لتغدو المسيحية وديعة الاسلام وليغدو الاسلام وديعة المسيحية، في الانتماء الى العروبة كرابطة موحدة لجميع اللبنانيين.
هذا التشارك البيئي، الذي يكشف عنه كمال جنبلاط، يتجاوز ما تنظر اليه الايديولوجيات من قومية لبنانية او ملجئية او توطن للاقليات او جسر عبور بين الشرق والغرب، او بين المسيحية والاسلام او بين الحضارتين الاوروبية والعربية. فالحقيقة ان اللبنانيين يتشاركون بيئة متميزة بغنى سياسي وفكري وثقافي يمكنهم من ابتداع البواعث الجديدة لإحياء التراث العربي، بما يرسخه لبنان الرسالة من تعايش سلمي وتسامح ديني ومن توليد لوعي عربي جديد في مناخ الهدوء والدماثة الذي يميز اجتماع اللبنانيين .
تلك هي الخطوط العريضة لما كان يستشرفه المعلم كمال جنبلاط برؤيته الجدلية، من وظيفة للكيان اللبناني، يمكن لنا اليوم الافادة منها لصياغة مفاهيم اكثر تطورا واكثر وضوحا للدولة والمواطنة، وللظاهرة الحزبية، التي سبق أن تطرقنا اليها في سياق البحث عن مصطلح بديل لمصطلح الحزب، من خلال الدعوة إلى اعتماد “العزيم” الكمالي من اجل بناء الانسان في لبنان .
أستاذ في الجامعة اللبنانية