أبناء التوحيد .. أنوار الوفاء وحُرّاس العهد
بقلم الشيخ وسام سليقا *
أبناء التوحيد… أنوار الوفاء وحُرّاس العهد
في مدارج الزمن،
حيث تمضي الأمم
وتتعاقب الأجيال،
يبقى للصدق جذور لا يقتلعها ريح، وللأمانة جذع لا تكسره عواصف، وللشجاعة جناح يحلّق فوق العصور. وهناك، في ذلك المقام الأرفع، يسطع وجه أبناء طائفة المسلمين الموحّدين الدروز، الذين لم يكونوا يومًا هامشًا في كتاب التاريخ،
بل كانوا نصّه الأبلغ،
وحكمته الأصفى،
ومثاله الأجمل.
لقد وُلدوا من رحم العهد، عهدٍ عتيق ممتدّ إلى جذور الرسالة، حين أشرق نور الإسلام، وحين وقف الناس بين يدي النبي الأكرم ﷺ، فكان العهد عهد الله
، أمانةً لا تُضيَّع، ووديعةً لا تُفرّط. فأخذوا ذلك العهد على أنفسهم، وحفظوه في قلوبهم، لا كمجرّد كلمات، بل كحياة .
ومن يومها صاروا أبناء الوفاء، يُعرَفون بحفظ الأمانة كما يُعرَف الفجر بضيائه.
الثبات في زمن التغيّر صعب،
والوفاء في زمن المصالح نادر،
غير أنّ هؤلاء القوم جعلوا من الوفاء دينًا وسلوكًا،
ومن الأمانة طريقًا توصل سالكها الى ارقى وأعلى المنازل
فصونهم للعهد هو صون للإيمان ذاته، وحراستهم للأمانة حراسة للقيم التي جاء بها الدين الحنيف. يردّدون في مجالسهم أنّ: “الأمانة أثقل من الجبال، ومن خانها هوى وإن بدا مرتفعًا.”
فإذا نظرت في مجالس مشايخهم، وجدت وجوهًا يكسوها النور، وسكينة تفيض كنسيم الفجر، وقلوبًا متصلة بالله، ترى في التقوى تاجًا، وفي الصدق زادًا، وفي الزهد ثراءً لا يضاهيه جوهر .
كانوا ولا يزالون مرابطين على عهد الله، لا يغريهم زخرف الدنيا، ولا تُفتنهم بسرابها،
يضعون همّتهم حيث المعالي، وأبصارهم حيث الحقّ،
وأيديهم حيث المروءة.
الشجاعة… معدن لا يصدأ مودوع في نفوسهم
ومن الوفاء تولد الشجاعة؛ فمن كان صادقًا مع ربّه ومع نفسه، هان عليه التضحية بكل زخاريف الدنيا في سبيل المبدأ.
الشجاعة عند أبناء التوحيد ليست صخبًا ولا اندفاعًا،
بل ميزانٌ من الحكمة والإقدام. هم الذين يعرفون أنّ السيف لا يُشهر إلا دفاعًا عن شرف،
وأن الدفاع عن النفس يكون في سبيل حماية أرضٍ أو صون كرامة.
يُروى في أمثالهم أنّ: “الشجاع من وقف حيث يجب، لا من حمل السيف حيث لا داع.”
ولذا كانت مواقفهم مشهودة، يهبّون إذا هُدّد الحق، ويقفون إذا اعتُدي على الجار، ويُضحّون إذا نادى الوطن. الشجاعة عندهم أمانة الرجولة، ومن لا شجاعة له لا أمانة له.
الأخلاق… تاج الإنسان الموحد
ولئن كانت الشجاعة سيفهم، فإن الأخلاق درعهم. لا يرون الدين طقوسًا جامدة، بل سلوكًا ينضح بالكرامة. أخلاقهم هي صورتهم الأجمل: تواضع في العزّ، عزّة في التواضع،
كرم لا يُبالي بفقر أو غنى،
صدق يعلو فوق المصالح،
ومحبّة تتجاوز الحدود.
قال أحد شيوخهم: “الإنسان بلا خُلُق كجسد بلا روح، ومجتمع بلا خُلُق كأرض بلا مطر.” ومن هنا أدركوا أنّ الأخلاق ليست زينة ثانوية، بل جوهر الوجود.
فهم يرون أنّ الوفاء بلا أخلاق ينقلب تعصّبًا،
وأن الشجاعة بلا أخلاق تصير طيشًا، وأن العلم بلا أخلاق وبالٌ على صاحبه.
التاريخ يتحدث عن وفائهم للأوطان
التاريخ يذكر إخلاصهم للأوطان؛ فهم يرون في الوطن أمانةً أخرى، تمامًا كأمانة الدين ” ومن هنا كان دفاعهم عن الوطن دفاعًا عن أنفسهم وكرامتهم.
لم يكونوا يومًا طالبي جاه أو باحثي سلطان، بل حماة للكرامة، وجنودًا للحرية، وحرّاسًا للهوية.
الأمانة التي تعانق الأبد هي رسالتهم
وإذا أردنا أن نلخّص سرّ تاريخهم الناصع، فلن نجد كلمةً أبلغ من “الأمانة”. إنّها خيط يربط كل فضيلة عندهم
وفي هذا قال حكيمهم: “من ضيّع أمانة الدين ضيّع أمانة الوطن، ومن ضيّع أمانة الوطن ضيّع أمانة النفس.”
أبناء التوحيد، روح متألّقة
وهكذا، حين يُفتح الحديث عن أبناء التوحيد، تجد نفسك أمام لوحة لا يبهت لونها، ولا ينطفئ نورها: لوحة من وفاء يليق بالرجال، وأمانة تحفظ العهود، وشجاعة تصون الحقوق، وأخلاق تبني الأوطان.
إنّهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ في كلّ عصرٍ تجدهم حيث يجب أن يكونوا،
وفي كل موقفٍ ترى وجوههم مشرقةً بنور الإيمان. لم يُبدّلوا، لم يفرّطوا، لم يبيعوا عهدهم. كانوا وما زالوا أبناء العهد المحفوظ، وحملة الأمانة، وحُرّاس القيم.
فلتشهد الدنيا، أنّ أبناء التوحيد ما زالوا نجوماً تهتدي بها القلوب، ومصابيح تُضيء بها الدروب
وأمثولة خالدة في كتاب الشرف الإنساني.
وكما قال الأجداد:
“الكرامة حياة، والوفاء خلود
*رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الدرزي ومستشار شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي ابي المنى












