كتب نقولا أبو فيصل “حين يتكلّم التواضع من قلب الحياة”

بنبرةٍ يختلط فيها الفضول بشيءٍ من الحكم المسبق سألتني سيدة طيبة : “هل يعرف الأغنياء التواضع؟” ابتسمت دون أن أجيبها مباشرة، ثم قلت لها: “عليك أن تسألي الأغنياء أنفسهم.” توقفت لحظة، نظرت إليّ نظرةً أرادت أن تُكمل معي الحوار إلى عمقٍ آخر، ثم قالت: “وأنت… أأنت منهم؟” هززت رأسي وقلت: “لا يا سيدتي، الغنى الحقيقي لا يُقاس بما في الجيوب، بل بما في القلوب.”
في حياتنا اليومية، كثيرون يخلطون بين من يملك وبين من يستحق الاحترام. فالمال قد يعطي صاحبه قوة، لكنه لا يعطيه قيمة. القيمة تنشأ من طريقة مشيه بين الناس، من كلمته حين لا يحتاج أن يقول شيئًا، ومن لطفه حين لا يراه أحد. التواضع ليس درسًا يُتعلّم، بل شعورًا يُمارَس؛ ينبت في التفاصيل الصغيرة: في ابتسامة لبائع بسيط، في اعتذار صادق، في عدم استصغار أحد. هناك من يعيش عمره كلّه بسيطًا بلا مال كبير، لكنه يملك ثروة من الأخلاق لو وُزّعت لكفت مدينة كاملة.
التواضع الحقيقي لا يصنع ضجيجًا؛ إنه يأتي مثل نسمة آخر النهار، يمرّ بخفة، ولا يخلّف إلا راحة في النفوس. رأيت أشخاصًا يملكون الكثير، ومع ذلك يجلسون مع الناس كأنهم واحد منهم—لا حرس، ولا استعراض، ولا كلمات تحتاج إلى مترجم. ورأيت آخرين لا يملكون من الدنيا إلا قوت يومهم، لكنهم يعطونك شعورًا بأن العالم واسع وأن الخير لا يموت. في كل حيّ، وفي كل شارع، هناك أمثلة صغيرة لا نلتفت إليها: رجلٌ يساعد عجوزًا على حمل حاجياتها دون انتظار شكر، عامل يبتسم رغم تعبه لأن قلبه أبيض، مديرٌ يمرّ بين موظّفيه ويسأل عن أحوالهم قبل العمل. هذه التفاصيل البسيطة هي التي تصنع الصورة الحقيقية للتواضع، لا الكتب ولا النظريات.وأحيانًا، نلتقي بأشخاص نظنّهم بعيدين عن واقعنا، فإذا هم الأقرب إليه؛ يذكّروننا بأن الإنسان، مهما ارتفع، إن لم يبقَ قلبه على الأرض، سقط. التواضع ليس أن تنحني أمام أحد، بل أن تتذكّر أنك من دون الآخرين لا تساوي شيئًا.
الغنى الذي تحدّثت عنه ليس ميراثًا ولا استثمارًا، بل سلوك. هو أن تعرف قيمتك دون أن تحتاج لاختبار قيمة الآخرين. أن تكون قادرًا على العطاء دون أن تنتظر التصفيق. أن تمشي شامخًا دون أن تدوس أحدًا. في الحياة اليومية، نرى هذا الغنى في إنسان يقرأ ليصبح أفضل، في امرأة تُربّي أولادها على المحبة قبل التفوق، في شاب يساعد أهله بصمت، وفي عجوز يُعلّم جيرانه كيف يعيشون بضمير . هذا الغنى لا يُشترى، ولا يُورّث، ولا يُسرق. إنه يُصنع من التجارب، من الخيبات، من الوقوف بعد السقوط، ومن معرفة أن الإنسان، مهما جمع، إن لم يجمع شيئًا من الأدب والرحمة، فهو أفقر الناس.وفي نهاية المطاف، التواضع ليس صفة تُضاف إلى الإنسان، بل هو هواءٌ يتنفّسه. حين يكون حاضراً، يلين القلب، تُصبح الكلمة ألطف، وتصبح الحياة نفسها أكثر احتمالًا. نعم، قد لا يعرف بعض الأغنياء التواضع، لكن أعرف فقراء أثرياء إلى حدٍ يجعل الحياة تبدو أجمل. وأعرف أغنياء حقيقيين… لا لأنهم يملكون الكثير، بل لأنهم يجهلون أن ما يفعلونه يُسمّى تواضعًا.
نقولا أبو فيصل ✍️
www.nicolasaboufayssal.com












