نهاد المشنوق: الملاكم
في تشرين الثاني عام 2017، وقف النائب والوزير نهاد المشنوق على منصة “دار الفتوى”، في عائشة بكّار، ببيروت، ليقول “نحن لسنا قطيع غنم”. حينها كان واحداً من أركان غرفة عمليات “إنقاذ سعد الحريري” من احتجازه القسري في السعودية.
ورغم صوابية المشنوق وجرأته هنا، إلا أن “القطيعية” للأسف،
غالباً ما تصح في رهط كبير من سياسيينا، بقدر ما تصح بجماهير(نا). وعلى
الأرجح، فإن زملاء المشنوق ورفاقه أصابتهم رعدة الخوف من كلامه، في تلك
اللحظة العصيبة التي كادت تمزّق “تيار المستقبل”.
صنع الصورة
والحال
أن وزير الداخلية، المحب للترف، يتمتع بفن شخصي هو “الإتيكيت الاستفزاز”.
يمكنه هنا استخدام طبقات صوته العميق والجهير، لغته التي تبدو هجينةَ
لهجاتٍ وأساليب كتابة، وجهه الدسم أو حتى سيجاره الثخين والكبير.
الكبرياء ولو على شبهة العنجهية، تضعه في مواجهة دائمة مع أنداده، هو الذي يتسلح بجسد ضخم ورأس كبير، ليبدو كملاكم بيدين هائلتين أشبه بمطرقة، وعلى استعداد لتوجيه اللكمات الغادرة في أي لحظة. ويضيف إلى هذه الترسانة تلك المبالغة في الأناقة، القائمة على ذوق يميل إلى الإفراط: ساعة يد عملاقة، ربطة عنق بارزة وعريضة، بدلات مسرفة بالفخامة، “هوت كوتور” رجولي، إذا صح التعبير.
وعلى الأرجح، يتحمل نهاد المشنوق أكثر من رفيق الحريري
مسؤولية صنع وإشاعة صورة “الحريريين” منذ بداية التسعينات، حين تكوّن نادي
الإعلاميين، والسياسيين الجدد، ورجال الأعمال الصاعدين، وتلك الفئة حديثة
الولادة المسماة “المستشارين”، وبعض المثقفين، والمناضلين الحزبيين
السابقين، الذين بدأوا بالتجمع في المقر الموقت لرئاسة الحكومة بالصنائع،
ليمروا أولاً على المكتب الصغير للمستشار نهاد المشنوق، قبل الدخول على
الرئيس الملياردير رفيق الحريري. حينها كان مظهره وسلوكه ودرايته في التأنق
والترف عاملاً حاسماً في صوغ تلك “الموضة” في الملبس، في حمل السيجار
وتدخينه، في اختيار المطاعم، في الخروج إلى مقهى محدد، في إعادة تأثيث
المنزل، في انتقاء طراز السيارة، في معرفة العقدة الجديدة لربطة العنق، في
اقتناء الأعمال الفنية، في ارتياد الحفلات المهمة.. والأهم في اتقان لغة
الجسد ما بين التشاوف والاعتزاز والرفاهية.
البحبوحة والاضطهاد
وينتمي
المشنوق أصلاً إلى رتبة من الصحافيين اللبنانيين، الذين تنعموا، ما بين
أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات، بامتيازات صحف ومجلات ومطبوعات انهالت
عليها خيرات الفورة النفطية، فضلاً عن تنافس الأنظمة العربية في “دعم”
واسترضاء أو استتباع تلك المنابر البيروتية وأقلامها. وترتب على هذه
البحبوحة اكتساب أولئك الصحافيين عادات إنفاق وبذخ وترف، حفظها المشنوق
وواظب عليها ليكون مثالها الأبرز.
في موازاة ذلك، كانت السمة الثابتة في معظم هؤلاء الصحافيين هي الخصومة مع النظام السوري تحديداً. فواحدة من شروط السياسة السورية النشطة في لبنان، كانت إما التخلص من الصحافة اللبنانية أو التدجين التام لها، فكان اغتيال نقيبها رياض طه، ثم زميل المشنوق واستاذه في مجلة “الحوادث” سليم اللوزي.
لذا، ورغم قدرته على المهادنة والمحاورة، وحرصه على حفظ “شعرة معاوية”، إلا أن سيرة المشنوق كلها تضعه ولو قسراً في خانة المعارضين للنظام السوري. ربما عامل الكبرياء الشخصي، والاعتداد بالنفس على نحو ظاهر واستعراضي، لا يتواءمان بالمرة مع تلك الوضاعة التي يحبذها النظام بمريديه وأتباعه.
هكذا، تورط المشنوق، في عز “العودة” السورية إلى لبنان عام 1983، في ما سمي “اللقاء الإسلامي”، الذي عبّر لأول مرة منذ اندلاع الحرب عام 1975، عن مزاج الأغلبية المدنية السنّية في لبنان، بنبذ الحرب ورفض الهيمنة السورية. بالطبع، لهذا السبب كان مقتل المفتي حسن خالد والنائب ناظم القادري ونفي الرئيس تقي الدين الصلح وهروب المشنوق تالياً، نافذاً بجلده، إلى باريس.
وتكررت التجربة المريرة مع “المخابرات” السورية، بعد عودته
إلى لبنان تحت جناح رفيق الحريري، حين ابتدأت تتوضح نزعة الحريري
الاستقلالية (تماماً كما المفتي المغدور حسن خالد)، وكان المشنوق هو
“المتهم” الأول في تشجيع الحريري على تمرده، وفي قيادة معركة إعلامية ضد
“الوجود السوري” (هو الذي يدير شبكة من الصحافيين المقربين والموزعين على
كبريات المؤسسات الإعلامية حينها)، فكان المنفى الباريسي مرة أخرى.
المعاشرة الخطرة
وغرابة
وزير الداخلية هي جمعه صفتين نادراً ما تجتمعان في شخص واحد: أن يكون
صحافياً حقاً ثم يكون رجل أمن فعلاً. لكن ما يبدد الغرابة بعض الشيء، أن
سيرته الصحافية انطوت على فطنة وحنكة في نسج علاقات قوية مع رجال الكواليس
في الدولة المصرية، وفي جهاز الدولة السعودية، كما في “صداقته” المعروفة مع
قادة منظمة التحرير الفلسطينية المؤثرين، مثل صلاح خلف (أبو أياد).
تلك المعاشرة الخطرة، إن جاز القول، مكّنت الصحافي من مصادر ومعلومات ودراية واطلاع على أسرار، وأكسبت الوزير خبرة وفهماً لعقلية الأمن وذهنية العاملين في أجهزته. فيسعه أن “يتفاهم” مثلاً مع وفيق صفا في الوقت الذي يعرف فيه أن المتهم الأول باغتيال رفيق الحريري كما باغتيال وسام الحسن هو حزب الله. المقدار الهائل هنا في كبت العواطف، في خنق أي انفعال، ليسا من شيم الصحافي ولا بالضرورة من سمات السياسي المدني. هي صفات الذين يتحرقون لـ”النجاح”.. فالمشنوق، الذي تشي ملامحه بالشبق والرغبات المادية والشهوة الحسية وحب ملذات الحياة، هو أيضاً شبيه عسكري منضبط، يغامر بحياته من أجل النصر. اليوم، وإذ بات مؤكداً عدم تسميته في الحكومة الموعودة، بسبب “إتيكيت الاستفزاز” الذي مارسه داخل بيت الحريرية وخارجه، كما صار مؤكداً “العودة” السورية إلى الميدان اللبناني، يبدو أن هذا الملاكم لن يجد روحاً رياضية عند خصومه.
يوسف بزي/ المدن